الأحزاب في لبنان: السوسيولوجيا تغلب الأيديولوجيا


كيف يموت بلد فيه “الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية”؟

رفيق خوري كاتب مقالات رأي 

الديمقراطية هشة، يقول الرئيس جو بايدن بعد محنة الهجوم الغوغائي على الكونغرس الأميركي، هجوم خطط له محرضون أصحاب أهداف انقلابية، وقاده رؤساء منظمات متطرفة، ونفذه فوضويون.

السؤال في أميركا اليوم هو، “كيف تموت الديمقراطيات”، بحسب عنوان كتاب للبروفيسورين ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات من جامعة هارفرد، والسؤال في معظم الشرق الأوسط، لا سيما حيث مرّ “الربيع العربي”، هو: كيف تولد الديمقراطيات؟ أما في لبنان، فإن السؤال هو: كيف يموت بلد؟ بلد فيه “الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية”، كما يقول الرئيس سليم الحص.

بحسب كتاب ليفيتسكي وزيبلات، فإن المشكلة هي “اللعب الدستوري القاسي، إذ ينشر السياسيون سلطتهم بأوسع مما يستطيعون الذهاب إليه”، وفشل الديمقراطية يبدأ “حين ينحاز الحَكم في اللعبة الديمقراطية إلى الحكومة ويزوّد الحاكم بدرع ضد التحديات الدستورية وبسلاح قوي وشرعي للانقضاض على خصومه”، وما نتعلمه من التجارب في الشرق الأوسط هو المسارعة إلى الانقضاض على إرهاصات الديمقراطية في حراك الشارع كما في أفكار النخبة، الانقضاض بالقمع والعنف أو بتسهيل الطغيان الأصولي المتشدد المعادي للديمقراطية على حراك الشارع، إذ يصبح البديل من السلطويات أخطر منها، وما نراه في الواقع اللبناني اليوم هو أن العصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية والأسرية أقوى في التحريك من الجوع والبطالة وسطو المافيا على المال العام والخاص ولا مبالاة المسؤولين حيال هموم المواطنين واهتماماتهم.

ذلك أن السوسيولوجيا غلبت الأيديولوجيا، فالمشكلة في تركيبة المجتمع اللبناني، أمراء الطوائف عملوا منذ البدء على “تجذير” المشكلة وتكريسها كحقيقة دائمة واللعب بها للتلاعب بالناس والهرب من “دور” لبنان الاستثنائي إلى اختراع “وظيفة” عادية له، والنخبة التنويرية أهملت القيام بدراسات معمقة للتركيبة الاجتماعية، مفضلة التحليق في فضاء الأيديولوجيا والاستراتيجيا، باستثناء محاولات محددة وقليلة، فالأحزاب العلمانية أو العابرة للطوائف ليست في صدر المسرح السياسي اللبناني، وهي أحزاب بعضها يقترب من عمر لبنان الكبير، لكنها لم تحقق أهدافها الأساسية. الحزب الشيوعي جرى تأسيسه عام 1926، والحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، وحزب البعث 1945، والحزب التقدمي الاشتراكي في منتصف القرن الـ20. وهي التحقت بقطار المنظمات الفلسطينية في حرب لبنان على أمل تغيير النظام ضمن برنامج “الحركة الوطنية”، فتغيرت هي بشكل أو آخر.

أين الحزب الشيوعي اليوم مما كان عليه في الستينيات وأوائل السبعينيات؟ أين الحزب السوري القومي المنقسم على نفسه مما كان عليه في الخمسينيات وطموحه لتوحيد “الأمة السورية”؟ حزب البعث متأثر بما حدث للأصل في سوريا والعراق، وكان مؤسس الحزب ميشال عفلق يقول لرفاقه في لبنان، “لا تتصرفوا كحزب سوري في لبنان بل كلبنانيين في حزب عربي”، قوة الحزب الاشتراكي في المعادلة هي أنه صار الممثل الأبرز للطائفة الدرزية، الحزب الديمقراطي العابر للطوائف اختفى، الحزب الدستوري العابر للطوائف انتهى، والكتلة الوطنية العابرة للطوائف ضعفت.

والسؤال الأكبر هو: أين الكُتاب والشعراء والمفكرون الذين عملوا في الحزبين الشيوعي والقومي بشكل خاص، وكيف أقفر الحزبان وسواهما منهم؟

أما الأحزاب والتيارات التي تلعب الأدوار الأساسية، فإنها تمثل الطوائف والمذاهب، حزب القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر، وتيار المردة، وحركة “أمل”، وكلها جديدة ولدت في الحرب، باستثناء حزب الكتائب الذي تعاظم دوره في الحرب ثم ضعف، وحزب الوطنيين الأحرار الذي خسر التنوع الطائفي، أما الحزب الأقوى الذي يمسك بالبلد وقرار الحرب والسلم فيه، فإنه “حزب الله” الذي جرى تأسيسه في الربع الأخير من القرن الـ 20 بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام الخميني.

والواقع أن أحزاباً عدة في لبنان ليست أحزاباً بالمعنى الديمقراطي بمقدار ما هي “ماكينات” طائفية أو تجمعات تحت سيطرة زعيم واحد أو أسرة واحدة، والنظام الطائفي مفلس، لكنه قوي في دولة ضعيفة وسلطة مستقوية ومستضعفة في الوقت ذاته. لا الأحزاب العلمانية قادرة على تغيير النظام أقله نحو دولة مدنية، ولا الأحزاب الطائفية والمذهبية لها مصلحة في تغيير النظام الذي لا دور لها ولا حتى وجود من دونه، ولا رزق لها إلا من تناتش الحصص السلطوية فيه.

ومن المبكر بالطبع الحكم على ما يمكن أن يصل إليه الجيل الجديد العابر للطوائف والمناطق الذي ملأ الساحات مطالباً بالتغيير الجذري، فالانتفاضة التي سُمّيت بثورة “17 أكتوبر” تعثرت وتعرضت لهجوم من حراس النظام. والوقت لم يسمح بأن ينتظم الشباب ضمن حركة تملك خريطة طريق إلى التغيير ولها قيادة، ولا تمكّن بعض النشطاء من مقاومة الإغراء في الوقوف والحديث اليومي تحت الأضواء، لكن ما حدث خلق دينامية مرشحة للعمل على مراحل، لأن من الوهم الرهان على الحصاد بعد أيام من الزرع، ومن دون التغيير في تركيبة المجتمع والانطلاق من الإيمان بأن الطائفية ليست قدراً تاريخياً دائماً بل هي صناعة قابلة للتحول، فإن صدر المسرح السياسي يبقى للأحزاب الطائفية والمذهبية، وتلك هي المسألة.