السيرة أصدق إنباءً


إنها فعل ملح ينضح به الإنسان في أثناء مشوار حياته وقد تكون ميسمها

أحمد الفيتوري كاتب

ثناء تسعينيات القرن الماضي، كانت نقابة المحامين الليبية بطرابلس تقيم مناشط ثقافية مسائية كل عام في رمضان، ومن منشطيها المحامي الراحل محمد سالم دراه، من ذات مرة تساءل: عن العلاقة بين السيرة الذاتية والمذكرات بالوثيقة القانونية؟ وقد كانت هذه العلاقة محوراً رئيساً لندوة من تلك المناشط. ومن مدينة بنغازي، حيث أقيم، دُعيت للمشاركة أكثر من مرة في هاتيك المناشط، ولمعرفة السيد محمد دراه بشغفي بالسيرة ومناقشاتي الدائمة حولها، بعث لي تذكرة الطائرة ملحاً على الحضور.

في الطائرة، وقبل وبعد، شُغل عقلي، بالتساؤل حول علاقة السيرة شغفي بالوثيقة ما عندي تقل أهمية، فعندي أن السيرة أصدق إنباء من الوثيقة. ومفكر السيرة الذاتية الفرنسي فيليب لوجون: إن السيرة ميثاق بين المرء نفسه (وجوده الخاص)، فيما الوثيقة سطح صفيح بارد، أو كما قال.

منذها وقد مرت عقود، والمسألة تلح علي، ففي تلكم الندوة كان المحور الرئيس المهيمن: غياب السيرة الذاتية عن الثقافة العربية وغيرها، وتمركزها في المركز الغرب الأوروبي. لكن قبل الغياب من عدمه، ما يلح بشدة مقاربة أهميتها من عدمها أيضاً، قبل أليست السيرة هي البصمة الذاتية للفرد الإنسان، ومن ذا هي سيرة الجماعة، وأنها فعل ملح ينضح به الإنسان في أثناء مشوار حياته، وقد يكون ميسم هذه الحياة، فالكثير من البشر، إن لم يكن الكلّ، يسرد سيرته في يومه أو في مجمل أيامه، وبغض النظر عن صدقيتها، فهي وثيقة الروح ما تكشف ما يتخفى منها، فإن زور المرء سيرته، فمسرودها كاشف لذا التزوير.

بعيداً عن ذاك، كانت حتى الأساطير سيرة بشرية، كما “جلجامش”، السيرة الوثيقة عن شغف الإنسان بالخلود، وعن أن العدو الموت، وعن الصداقة والدفاع عن الكينونة. ولا أريد الغوص في مقاربتي هذه، في فلسفة السيرة ومفاهيمها، فذلك مجال عميق، تمتلئ المكتبات بدرسه وبحثه. لكن أريد بهذه المقالة، إثارة الحاجة الملحة، إلى احتياجنا إلى معرفة المستقبل، من خلال السير الفاعلة في اليوم، ما هو ماضي المستقبل.

ذلك لا يتسنى، من دون الإلمام بالسيرة الغيرية، التي هي ما يقوم به كاتب ما عن غيره، فالسيرة الغيرية مثلما سيرة الرسول الأعظم: “السيرة النبوية لابن هشام”، وهاته السيرة وثيقة الصلة، بذات المكتوب عنه وصلاته بمعيشه، وكلما كانت جديرة بالقراءة، فلأنها إضاءة مضافة من الغير للذات، ما يعني الإحاطة بالموضوع من كل مناحيه الذاتية والموضوعية.

لسيرة الغيرية غوص في الأعماق، في الغور العميق ما يستلزم نفساً قوياً، نفس لا تخاف البلل، حريصة على عدم الغرق في ما تبحث، وهذا يستلزم شيئاً هو شجاعة الحكيم، فأن تكتب سيرة ذاتية للغير، كأنما تُشرح جسد ذات، ليست أنت وهي أنت أيضاً، هذا الالتباس هو معنى ضرورة السيرة الغيرية، وأهميتها، وأنها المفتاح لمعرفة من جرى اختياره للكتابة عنه.

هذا الإلماح المكثف عله يبين لنا، كيف أن السيرة الغيرية مجهرية، في معرفة الذات البشرية الفاعلة، ما من خلاله، معرفة “ما حدث ما سيحدث”، فإنها إضافة مركزة تُعنى بدور الفرد، والفرد الفاعل في الجماعة، بل وحتى إنها إعادة إحياء لدوره، وبعثه في مهمة تخص المستقبل. بذا السيرة الغيرية، تسقط الضوء على ما يشبه “العقل الباطن”، ما هو مظلم في العادة. وكم يكون في ذلك تحفيز متعدد الأهداف والأغراض، لدراسة موضوعة ذات صلة بصاحب السيرة، وللقارئ الدارس والقارئ العابر.

لكن، وما أكثرها لكن هذه، في لغة الضاد، قلّ أن نجد سير غيرية بهذه اللغة، فما نقرأ مترجم، وهو أيضاً ليس بالمتوسع في ترجمته، كما حاصل مع الرواية ومنها الرواية السيروية. ولقد كانت وما زالت السيرة الغيرية، تمثل نقصاً بارزاً في التأليف والكتابة العربية، وكم هو نقص فادح يكشف عنه ثراء الغرب، ما مثلاً جعلني أقرأ مترجماً، أكثر من سيرة لهتلر، وسيرتين للشاعر الأنجلو أميركي إليوت.

في حين أكاد أجزم، أني ما قرأت غير النزر اليسير بالعربية، مثل كتاب “غُومه”، الشخصية الثائرة ضد الدولة العثمانية، بالجبل الغربي الليبي في القرن التاسع عشر، وكان ولد عام 1758. ما كتبها كسيرة غيرية الكاتب الليبي المعروف علي مصطفي المصراتي.

وقد حول هذه السيرة إلى مسرحية، الكاتب المصري مصطفي محمود في شتاء 1968، ما بعد بدل اسمها من “غومة” إلى “الزعيم”، وقدمها المسرح القومي المصري في السبعينيات من القرن المنصرم من إخراج جلال الشرقاوي، وشاركت في المهرجان المسرحي العربي الثالث بسوريا، وحصلت على جائزة أفضل عرض. وكانت ورقتي عن كتاب المصراتي “غُومه”، التي قدمتها إلى الندوة المشار إليها أعلاه، ما أقامتها نقابة المحامين الليبيين بطرابلس، في أثناء تسعينيات القرن الماضي.