أثارت دعوة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، لإجراء حوار وطني ردود أفعال مختلفة بين ترحيب علني وحار من أطراف سياسية، وآخر حذر من أطراف أخرى، فيما تجاهلته أطراف ثالثة.
وباستثناء الإشارة الواضحة والمحددة الواردة في دعوة الكاظمي “للتوصل إلى إطار الاتفاق النهائي للعلاقة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، بما يحفظ وحدة الأراضي العراقية، ويعالج المشاكل المتراكمة جذرياً” بقيت دعوة الحوار هذه عمومية الطابع وتقترب من الانشائية المعتادة حتى وإن كانت مُحركةً بنوايا نبيلة ومخلصة، مستفيدةً من الأجواء الإيجابية التي خلقتها زيارة البابا للعراق.
فمطالبة القوى السياسية بـ “تغليب مصلحة الوطن والابتعاد عن لغة الخطاب المتشنج والتسقيط السياسي، وإلى التهيئة لإنجاح الانتخابات المبكرة، ومنح شعبنا فرصة الأمل والثقة بالدولة وبالنظام الديمقراطي” تبدو كلها أمنيات مشروعة لكنها تضيع بسهولة في غابة السياسة في العراق بصراعاتها العميقة ومنافساتها الشرسة التي تصل حد سفك الدم، إن بقيت بدون تفاصيل وآليات واهداف محددة وقابلة للتنفيذ ضمن إطار زمني معلن ومعقول.
لا تكمن أهمية دعوة الكاظمي للحوار الوطني في محتواها العام، إذ سبقتها على مدى السنوات الماضية دعوات مشابهة كثيرة من أطراف مختلفة حكومية وسياسية وشعبية، لكنها لم تحقق شيئاً ليلفها النسيان سريعاً ولتستأنف السياسة في العراق سيرتها المعتادة القاسية القائمة على الغلبة والاستئثار والصفقات النفعية القصيرة النظر التي يعقدها فرقاء سياسيون متنافسون على حساب مصلحة المجتمع ومستقبل الدولة.
في الحقيقة تكمن أهمية الدعوة في توقيتها إذ هي تأتي في مرحلة انتقالية صعبة يشوبها الكثير من الحيرة والترقب، وتشعر فيها معظم الأطراف السياسية والحكومية والشعبية الاحتجاجية، بأنواع مختلفة من الضعف والقلق إزاء خصوم حقيقيين ومتُخيلين لا تستطيع أن تتبين مقدار قوتهم أو ضعفهم أو أن تتنبأ بسلوكهم في إطار صراع سياسي حاد ومعقد، معلن احياناً، ومضمر احياناً اخرى.
في عراق ما بعد الدفق الأول والهائل والمركزي لحركة احتجاجات تشرين، الذي استمر نحو سبعة أشهر استثنائية بين تشرين الأول/أكتوبر 2019 ونيسان/أبريل2020، الكل خائفون وقلقون ومرتابون بالكل: المجتمع يرتاب بكامل الطبقة السياسية، والطبقة السياسة خائفة وقلقة من رد فعل المجتمع نحوها، الحكومة قلقة من البرلمان ومرتابة به، وهذا الأخير يرد عليها بارتياب وقلق شبيه، والفصائل الولائية المسلحة ترتاب بجمهور المحتجين وتتعقب الناشطين المؤثرين منهم، فيما يقلق هذا الجمهور من هذه الفصائل ويطالب الحكومة بردعها.
هذه الفصائل أيضاً ترتاب بالحكومة وتتحداها أحياناً، فيما قلق الحكومة من هذه الفصائل وارتيابها بها معلن أحياناً ويترجم بخطوات صغيرة نسبياً وغير معلنة ضدها أحياناً اخرى.
حتى الأحزاب السياسية المتحاصصة في السلطة منذ 2003 تخشى وتراقب بعضها الآخر بقلق في إطار تنافس شرس بينها على النفوذ والموارد، فيما الارتياب المتبادل بين بغداد العاصمة والإقليم الكردي في الشمال راسخٌ وقديم، ومشهد النزاع بين الطرفين على ميزانية عام 2021 هو تكرار سنوي معتاد لهذا الارتياب الذي يُترجم الى تراشق سياسي موسمي وصل حد الملل الشعبي منه.
استمرار هذا الارتياب المتعدد الأوجه بين هذه الأطراف المتصارعة الكثيرة، من دون وجود أفق مستقبلي لتنفيسه وحلحلة الصراعات المختلفة التي تغذيه، قد يقود البلد الى حافة الاحتراب عبر لجوء بعض الأطراف إلى العنف، أو تلويحها به (وبعض هذا التلويح حصل بضع مرات في الأشهر القليلة الماضية). بعد كل العنف المسلح، المتنوع الأشكال والأدوات والأهداف، الذي شهده العراق على مدى الثمانية عشرة عاماً الماضية، سيكون من الحمق الشديد انتظار شرارة تأتي على نحو مفاجئ غالباً، كي توقد نارَ عنف جديد لن يكون سهلاً اطفاؤه هذه المرة، خصوصاً بعد تراجع التهديد الارهابي القاعدي-الداعشي منذ عام ٢٠١٨، وهو التهديد الذي كان اساسياً في توحيد الأطراف السياسية المتصارعة خلف اجندة واحدة عليها اجماع شعبي وأخلاقي وسياسي: مكافحة الإرهاب.
إذن، في ظل هيمنة الارتياب بين جميع الأطراف، مع عجز أي طرف بينها على حسم التنافس أو النزاع لصالحه وخوفها من الانزلاق في عنف جديد لا تستطيع أن تتنبأ بنتائجه أو خسائرها المحتملة فيه، يمكن أن تصبح طاولةُ التفاوض خياراً مغرياً إذا حُددت أجندة التفاوض على هذه الطاولة بدقة بحيث لا تمس سقوفاً عالية او تعلن اهدافاً كبيرة لن يكون ممكناً تحقيقها.
تشمل بعض السقوف العالية والأهداف الكبيرة المطالبةَ بحل سريع وفاعل لمشاكل بنيوية ومعضلات متغلغلة في جسم الدولة والسياسة مثل وضع حد للفساد المستشري وحصر السلاح بيد الدولة، وإنهاء المحاصصة وتصحيح العلاقة الإشكالية والمعقدة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وتقديم قتلة المحتجين للمحاكمة، وتقوية مؤسسات الدولة.
كل هذه مطالب مشروعة وصحيحة قانونياً وأخلاقياً، وعليها اجماع شعبي، لكن واقعياً لا يمكن تحقيقها في عمر الحكومة الحالية الداعية لإجراء الحوار الوطني، ولا أي حوار وطني عراقي آخر، لأسباب متداخلة ومعقدة الأهم بينها هو أن المتضررين من تلبية هذه المطالب هم اغلبهم من الأقوياء الماسكين بأدوات السلطة والتأثير والمتحكمين بموارد الدولة، وبالتالي ليس منطقياً تصور انهم يجلسون حول طاولة حوار تؤدي نتائجه إلى سلبهم مصادر قوتهم.
لكن ما هو منطقي في ظروف الصراع الحالية هو قبول هؤلاء التفاوض لحلحلة هذا الصراع ومنع تفاقمه حد الانفجار غير محسوب العواقب والضار بهم. ليس ثمة ما يمكن المراهنة عليه بهذا الصدد إلا الانتخابات المبكرة سبيلاً لهذه الحلحلة ، فبغض النظر عن الرأي الحقيقي للقوى السياسية المتحكمة بالدولة والموارد بهذه الانتخابات، فإنها تجد نفسها ملتزمة بإجرائها ومضطرة لخوضها حتى وان أُجلت مرة اخرى ورُفعت عنها صفة “المبكرة” لتصبح انتخابات دورية. لن تنجح الانتخابات المقبلة، على أهميتها، في حل الصراع الحالي، لكنها، في حال توفر شروط أساسية لضمان نجاحها، يمكن أن تصنع وقائع واصطفافات سياسية جديدة تساهم في تخفيف الاحتقان الحالي ووضع البلد على بداية سكة الحل الطويلة، بدلاً من انسداد الافق الخطر المهيمن حالياً الذي يغذي مشاعر اليأس والاحباط ويمكن أن ينفلت في عنف يصعب السيطرة عليه.
بعيداً عن الإجراءات التقنية المتعلقة بالانتخابات التي تتولاها المفوضية العليا للانتخابات مثل تجديد سجل الناخبين وتسجيل الكيانات السياسية المشاركة وإصدار البطاقات البايومترية للحد من التزوير، ثمة إجراءات سياسية مهمة لإنجاح هذه الانتخابات وتستطيع القيام بها القوى السياسية المتصارعة، كجزء من اتفاق هدنة سياسية تنتج عن طاولة هذا الحوار الوطني. إذا تمثل المحتجون وفعاليات اجتماعية وشعبية لم تندرج في السياسة سابقاً، في هذا الحوار إلى جانب القوى السياسية المتنفذة، وبرعاية وتنظيم حكوميين للحوار، فإنه ليس صعباً انتاج بنود هذه الهدنة والاتفاق عليها.
يمكن أن تتضمن هذه البنود حزمة خطوات يُلتزم بها لحين الانتهاء من إجراء الانتخابات المقبلة، وتشمل تعهدات مُلزمة بإيقاف متعددَ الأطراف لحملات التخوين والتسقيط السياسي، بما تتضمنه من اتهامات العمالة، الذيلية منها أو الجوكرية، ومنع استخدام السلاح خارج اطار الدولة ووقف حملات مطاردة ناشطي الاحتجاج وتأمين عودة الهاربين منهم لمناطقهم، وحث الجمهور على المشاركة الواسعة في الانتخابات، والقبول برقابة فاعلة على نزاهة الانتخابات من خلال منظمات أهلية رصينة، محلية وإقليمية ودولية، في ظل إشراف عراقي رسمي عليها، والتعهد بالقبول بنتائج الانتخابات سلفاً في حال عدم تشكيك هذه المنظمات بنزاهتها. لا تكلف بنود هذه الهدنة السياسية الأطراف الفاعلة كثيراً وتستطيع الالتزام بها تجنباً لما هو أسوأ واشدُ خطراً على مصالحها.
واحدة من أهم مصاعب التفكير السياسي في العراق هي هيمنة المثالية في صناعة الحلول والتعاطي مع الآخر المختلف، برغم وجود حس نسبي بالواقعية في إدارة التفاصيل. لم تجد هذه الواقعية طريقها لصناعة الحلول، إذ هي ما تزال محصورة في الإطارات السلبية مثل حالات تقاسم الأطراف السياسية المتنافسة لموارد الدولة. ثمة حاجة لأن تتصدر الروح الواقعية مشهد السياسة في البلد سواءٌ من جانب المحتجين الساعين لمأسسة عملهم الاحتجاجي سياسياً أو الطبقة السياسية التي تدير الدولة. ينطبق على وصف هذه اللحظة العراقية العسيرة مثلٌ انجليزي يبدو مفيداً في إنارتها ببعض الحكمة المفقودة “عدو الأشياء الجيدة هو الإصرار على الأشياء الكاملة”