هل تستطيع الصين وروسيا تحدي عقوبات أميركا وحلفائها؟


وطدت بكين وموسكو العلاقات الوثيقة بين بلديهما في مواجهة سياسات واشنطن

طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية

كان أسلوب الرد الصيني مختلفاً هذه المرة على أول إجراء منسق لفرض عقوبات غربية على بكين منذ تولي الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه، فقد أراد المسؤولون الصينيون أن يبعثوا برسالة تقول، إن بلادهم ترد على العقوبات بمثلها وتظهر نهجاً جديداً تتعاون فيه أيضاً مع روسيا في مواجهة الضغوط الغربية المتزايدة. فهل ستنجح الصين وروسيا في تحدي عقوبات أميركا وحلفائها، وإلى أي مدى يمكن لواشنطن أن تحقق أهدافها السياسية عبر بوابة فرض العقوبات ضد الخصوم في عالم يتغير كل يوم؟ 

صين مختلفة 

على الرغم من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا على مسؤولين صينيين بسبب انتهاكات حقوق أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينغيانغ غرب الصين والتي تنفيها بكين باستمرار، إلا أن بكين كانت على أهبة الاستعداد لرد مماثل، فقد أعلنت قبل أسابيع أنها ستقدم تشريعات تشمل إجراءات مضادة للعقوبات، وبالفعل فرضت على الفور عقوبات على 10 أفراد أوروبيين وأربع مؤسسات، ومنعتهم من زيارة الصين وهونغ كونغ وماكاو ومن الانخراط في تعاملات مالية أو تجارية أو اقتصادية مع المؤسسات الصينية.

وكان ذلك بمثابة إشارة إلى أن طريقة تعاطي الصين مع أزماتها العالمية قد تغيرت، فقد نمت لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال العقدين الماضيين، وألغى زعيمها الرئيس شي جين بينغ حدود الفترة الرئاسية من دون الاهتمام بالانتقادات الغربية، وضغط من أجل سيطرة أكبر على البلاد وسمح بخروج صوت دبلوماسي أكثر حدة تجاه الغرب.

ووطدت بكين وموسكو العلاقات الوثيقة بين بلديهما واتهما الغرب بفرض قواعده الخاصة على أي شخص آخر تحت ذريعة دعم الديمقراطية، ومحاولة تقييد قدرات التطور التكنولوجي للصين وروسيا التي تخضع أيضاً لعقوبات غربية منذ سنوات بسبب استيلائها على شبه جزيرة القرم ودعمها الانفصاليين في أوكرانيا وهجماتها على منتقدي الحكومة.

خيارات تضيق

وفي حين تبدو العقوبات المتبادلة رمزية، إلا أن تطبيقها ضد القوى الكبرى ذات الأوزان الثقيلة مثل روسيا والصين، قد لا يكون كذلك، نظراً لأن الخيارات السياسية أمام واشنطن تضيق في حال شرعت مع حلفائها في تطوير وتوسيع سلاح العقوبات في المستقبل. 

فقد بدأت الولايات المتحدة في استخدام العقوبات كأداة ردع جادة بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حين منح قانون باتريوت السلطة التنفيذية أدوات للضغط على المؤسسات المالية الأجنبية التي تهدد سلامة النظام المصرفي الأميركي، بخاصة البند رقم 311 من القانون الذي سمح لوزارة الخزانة بمراقبة وحظر البنوك التي تجري مراسلات مصرفية مع الكيانات المالية الراعية للإرهاب.

وإذا استخدم الحلفاء الغربيون عقوبات أشد، فمن المتوقع أن تستخدم روسيا والصين إجراءات متطورة لمواجهة العقوبات الغربية أو الالتفاف عليها. فمنذ سنوات سعى صندوق الاستثمار المباشر الروسي الذي يسيطر عليه الكرملين إلى جذب الاستثمار من صناديق ثروة سيادية أخرى بهدف التخفيف من تأثير بعض العقوبات الغربية. 

كما عملت الصين خلال السنوات الماضية على تطوير عقوبات مضادة قوية من خلال استخدام أسواقها الواسعة كسلاح مضاد. فعلى سبيل المثال، عندما قامت كوريا الجنوبية عام 2016 بتركيب نظام دفاع صاروخي تديره الولايات المتحدة، ردت بكين بفرض قيود غير رسمية عبر تشجيع وسائل الإعلام الحكومية المستهلكين الصينيين على مقاطعة المنتجات الكورية الجنوبية. كما استخدمت إجراءات تنظيمية مسيسة ضد الشركات الكورية الجنوبية العاملة فيها. 

وتعمد بكين الآن إلى إضفاء الطابع الرسمي على أدواتها الجديدة ضمن ما يسمى  قائمة الكيانات غير الموثوقة، والتي تمكنها من معاقبة الشركات الأجنبية مثل “كوالكوم” وبنك “أتش أس بي سي”، التي ترى أنها تنفذ سياسات واشنطن.

سلاح ذو حدين

ومع تزايد اعتماد عدد من الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، على سلاح العقوبات، ينبه مسؤولون سابقون إلى ضرورة النظر إلى هذه الإجراءات على أنها سلاح ذو حدين، يمكن أن يساعد واشنطن على تحقيق أهدافها السياسة على المدى القصير، ولكن في الوقت ذاته، فإن استخدامه بكثرة وعلى مدى زمني بعيد قد يعرض نفوذها المالي للخطر.

ويحذر وزير الخزانة الأميركي السابق جاكوب ليو، من أن اعتماد الولايات المتحدة على حقيقة عدم وجود بديل للدولار الأميركي كعملة احتياط يتعامل بها العالم، قد لا يستمر طويلاً، فمن شأن فرض عقوبات واسعة النطاق أن تجعل البلدان المختلفة تشعر بأنها رهينة له. 

وكلما بدا أن العقوبات الأميركية أقل ارتباطاً بمسائل الأمن القومي وأكثر صلة بالسياسة، اتخذت القوى الاقتصادية الأخرى خطوات للتحايل على الأسواق الأميركية وتقويض وضع الدولار كعملة احتياطية. وإذا استمرت واشنطن في إجبار الدول الأخرى على اتباع السياسات التي تعتبرها غير قانونية وغير حكيمة، فمن المرجح خلال عقدين أو ثلاثة أن تتحول عن النظام المالي للولايات المتحدة، وحينها ستفقد واشنطن نفوذها المالي ولن يكون للعقوبات تأثيرها الحالي، فضلاً عن خسارتها وضعها الدبلوماسي القيادي حول العالم.

فعالية العقوبات الأميركية

ويعتبر منتقدو العقوبات أنها تعاني أحياناً من قصور في الرؤية، وقليلاً ما تنجح في تغيير سلوك الجهة المستهدفة، لكن المؤيدين يرون أنها أصبحت أكثر فعالية في السنوات الأخيرة ولا تزال أداة أساسية للسياسة الخارجية. فقد كانت العقوبات السمة المميزة للرد الغربي والأميركي تحديداً على تحديات جيوسياسية عدة، بما في ذلك البرنامج النووي لكوريا الشمالية وتدخل روسيا في أوكرانيا، وفي السنوات الماضية وسعت الولايات المتحدة استخدامها وتطبيقها وتكثيفها ضد الخصوم في إيران وروسيا وسوريا وفنزويلا، كما تصاعدت بشكل ملحوظ العقوبات ضد الصين ومسؤوليها وشركاتها مثل شركة “هواوي” للاتصالات وكيانات أخرى. 

وتستمد العقوبات الأميركية قوتها من مجلس الاحتياط الفيدرالي، وهو البنك المركزي في الولايات المتحدة، الذي يقدم خدمات مصرفية ومالية لأكثر من 180 بنكاً مركزياً أجنبياً حول العالم، بما يمكنه من توفير السيولة المالية والنقدية خلال الأزمات، ويجعل الحسابات المصرفية مصدراً يسمح للاستخبارات المالية بمتابعة المنافسين الاستراتيجيين لأميركا. 

ولم يحدث أن فرضت دولة أو تجمع دول على أميركا عقوبات حقيقية مؤثرة، ولكنها هي التي فرضت عقوبات على دول أخرى تعادل أكثر من 60 في المئة من إجمالي العقوبات الاقتصادية منذ عام 1991، وقد نجحت في جعل الدول المستهدفة تنصاع إلى المطالب الأميركية في 40 في المئة من الحالات. 

ولا يرجع تفرد القوة الأميركية هنا فقط إلى أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مركزياً في النظام المصرفي العالمي، ولكن أيضاً لدورها المسيطر في مجال نظم الشحن. فالبحرية الأميركية تستطيع اعتراض أي عملية شحن في أي مكان من المياه الدولية، كما أن الدولار الأميركي يستخدم بنسبة 80 في المئة من المعاملات المالية الدولية، التي تمر عبر النظام المالي الأميركي، ما يوفر للحكومة الأميركية فرصاً عظيمة تمكنها من تجميد الأصول وتنفيذ عقوبات ضد دول معادية لها. 

بين الدبلوماسية والحرب

وبينما تعد العقوبات شكلاً من أشكال التدخل، إلا أنها تعتبر بشكل عام أسلوب عمل منخفض التكلفة وقليل المخاطر، كونها تتأرجح بين الدبلوماسية والحرب، إذ ينظر صانعو السياسة إلى هذه الإجراءات بوصفها منهجاً ملائماً للتعاطي والرد على أزمات خارجية لا تكون فيها المصلحة الوطنية للبلاد في وضع حرج أو خطير، أو عندما يكون العمل العسكري غير ممكن أو غير مضمون العواقب.

ولهذا سعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إعادة التنسيق المشترك مع الحلفاء الغربيين قبل فرض العقوبات، فكلما توفر الدعم من دول أخرى مؤثرة وزاد عدد الحكومات التي تشارك في فرضها، كان التأثير أفضل، بخاصة في الحالات التي يكون فيها الهدف يتمتع بعلاقات اقتصادية متنوعة حول العالم مثل الصين وروسيا. 

قدرات الصين محدودة 

وفيما طالب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال زيارته بكين بالتعاون مع الصين والاعتماد على المقومات والقدرات الذاتية للبلدين بهدف تحدي الهيمنة الأميركية الغربية، إلا أن قوة الصين في مواجهة الولايات المتحدة باستخدام سلاح العقوبات ذاته لا تزال محدودة، إذ إنها لا تمتلك المقومات المالية نفسها المتاحة لأميركا، ولا تسيطر على عملة الاحتياط الدولية (الدولار)، وإن كانت تسعى إلى تعظيم معاملاتها المالية والتجارية مع دول العالم بعملات وطنية أخرى.

وما يسري على الصين، ينطبق كذلك على روسيا وأوروبا وغيرها من القوى الاقتصادية العالمية التي فشلت حتى عبر تعاونها المشترك في بعض الظروف في تطبيق عقوبات اقتصادية مؤثرة ضد الولايات المتحدة.

قوة التحالف الغربي

ووفقاً لدراسات أميركية، لم يحدث أن شكلت مجموعة من الدول يوماً تحالفاً ضد الولايات المتحدة، في حين أن 68 دولة تحالفت رسمياً مع أميركا، كما دخلت عشرات الدول الأخرى في شراكات دفاعية معها. 

وتشمل شبكة التحالفات الأميركية الحالية ربع سكان الأرض وبما يمثل 75 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي وإجمالي الإنفاق الدفاعي العالمي، ولا توجد قوة عالمية كبرى في التاريخ حظيت بمثل هذه التحالفات، في حين أن روسيا تحتفظ باتفاقيات دفاعية قليلة مع بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق، ولا يوجد حليف للصين سوى كوريا الشمالية. 

ويمثل غياب التحالفات المعادية للولايات المتحدة علامة فارقة، لأنها قطعت شوطاً بعيداً في مواجهة الدول الساعية إلى تحديها، وهي تحتفظ بقوات عسكرية في كل بقاع العالم، وانخرطت في أكثر من 60 صراعاً عسكرياً بأشكال مختلفة منذ عام 1991.

التحالف الصيني الروسي

يعتقد كثيرون أن التحالف الصيني الروسي يمكن أن يشكل في المستقبل تحدياً للتفوق الأميركي، بعد ما أقامتا علاقة قوية في السنوات الأخيرة بهدف مواجهة النظام الليبرالي الحر الذي تقوده الولايات المتحدة، وتزايد التعاون بينهما في الشؤون العسكرية والتكنولوجيا والتجارة في الموارد الطبيعية، كما تتطابق سياستهما الداخلية بشأن المعارضين، حيث لا يسمح الحزب الشيوعي الحاكم في الصين بأي معارضة سياسية ويحتفظ بقبضة شديدة على المجتمع المدني، بينما يقمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مواطنيه المطالبين بنظام أكثر انفتاحاً.

لكن خبراء في العلوم السياسية ومنهم مايكل بيكلي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تافتس Tufts الأميركية، يستبعدون تشكيل أو نجاح هذا التحالف واقعياً، فهو يتطلب أن تتجنب كل من روسيا والصين منافساتهما القديمة، وكبح جماح اليابان شرقاً والهند جنوباً وحلف شمال الأطلسي (الناتو) غرباً. كما أن العلاقة الاستراتيجية بينهما من غير المحتمل أن تفرز تحالفاً حقيقياً بسبب رغبة كل منهما في السيطرة على “يوروآسيا” بينما يتشاركان في حدود طولها 2600 ميل، ولهذا يصعب بحسب مراقبين، تشكيل تحالف حقيقي بينهما إلا في حال خضوع أحدهما للآخر. 

كراهية أميركا 

ربما تتسبب كراهيتهما المشتركة للولايات المتحدة في إبقائهما معاً لفترة من الوقت وتحت ضغوط مرحلية معينة، لكن التاريخ يقول إن ذلك قد لا يستمر طويلاً، ففي بداية الحرب الباردة اصطفت الصين إلى جوار الاتحاد السوفياتي، ولكن بحلول عام 1960 كان الحزبان الشيوعيان في البلدين في حرب، وفي السبعينيات تحولت الصين للاصطفاف إلى جانب أميركا. 

ويرى خبراء استراتيجيون روس وصينيون أنه من الخطأ الوثوق في إخلاص الطرف الآخر لديمومة الشراكة بينهما، بل يرى البعض أن التعاون الروسي الصيني يقتصر على مجالات تتداخل فيها المصالح بين البلدين مثل دعم التجارة، في حين أنه في مناطق أخرى من العالم والتي تعني كثيراً لكل منهما، فإن صفة التنافس بينهما تطغى على كونهما حلفاء. فروسيا تبيع أسلحة إلى الصين، لكنها، أخيراً، خفضت من مبيعات الأسلحة لها وزادت من مبيعات الأسلحة لخصومها كالهند وفيتنام. 

وعلى الرغم من أن روسيا والصين تجريان مناورات عسكرية مشتركة بينهما، فإنهما تجريان في الوقت ذاته مناورات مع دول أخرى على مواقف عدائية مع الطرف الآخر، فضلاً عن إجراء كل منهما مناورات تحاكي حرباً صينية – روسية.

تنافس اقتصادي

وعلى الصعيد الاقتصادي تتقاسم روسيا والصين رغبة في تطوير دول آسيا الوسطى، إلا أن موسكو ترغب في ربط المنطقة بها عبر اتحاد اقتصادي يورو آسيوي، في حين أن بكين تسعى إلى إحياء طريق الحرير بربطها بالشرق الأوسط مع أوروبا واستبعاد روسيا وهي المبادرة التي تطلق عليها “الحزام والطريق”، ولهذا وضعت تلك المصالح المتناقضة روسيا والصين على طريق يسرع من حدة التنافس بينهما وليس التحالف ضد الولايات المتحدة. 

ويحاول خصوم واشنطن استخدام الاقتصاد كقوة ناعمة من خلال عدة خطوات مثل تطوير بدائل للنظام الاقتصادي الحر كما تفعل الصين وروسيا بتشجيع خلق سلة عملات دولية كي تحل محل الدولار، بحيث يكون ذلك نظاماً للتعاملات المالية الدولية ينافس أو يستبدل نظام “سويفت” الخاص بالاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وكذلك عبر تأسيس الصين بنك الاستثمار الآسيوي ليحد من النفوذ الاقتصادي الأميركي عبر توفير بدائل مالية للدول الفقيرة بعيداً عن صندوق النقد والبنك الدوليين. وكذلك سعي بكين إلى تشكيل أكبر كتلة تجارية في العالم من حيث عدد السكان تستبعد الولايات المتحدة منها، فضلاً عن مبادرة الحزام والطريق.

ولا شك أن الزمن وحده سيثبت ما إذا كانت الصين ستنجح في محاولاتها تقليص النفوذ الأميركي، ولكن حتى هذه اللحظة تواجه المبادرات الصينية عراقيل، فالدولار أصبح أكثر نفوذاً كعملة احتياط عالمية، ولم تجد بكين وموسكو سوى قليل من المتعاونين لاستبدال نظام “سويفت”.