أردوغان يعيد تشكيل تركيا لأن مستقبله على المحك


إقالته محافظ المصرف المركزي بدت خطوة سياسية أكثر منها اقتصادية

بورزو درغاهي مراسل مختص في الشؤون الدولية

هبطت قيمة العملة التركية، الإثنين الفائت، وتآكلت سمعتها الدولية بعد سلسلة تحركات اقتصادية وسياسية واجتماعية دراماتيكية أجراها الرئيس رجب طيب أردوغان، بدت كأنها تهدف إلى ترسيخ سلطته.

وشملت الخطوات إقالة المحافظ الحسن السمعة للمصرف المركزي التركي، وإحلال أحد الأنصار غير المجربين محله، السبت الماضي. وأدت تلك الخطوة إلى انخفاض قيمة الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها قبل أن تستقر عند نحو ثماني ليرات للدولار، بانخفاض 15 في المئة عن الأسبوع السابق. وكذلك تراجعت أسواق رأس المال، ما أضاف مزيداً من الضغوط على اقتصاد يعاني بالفعل من آثار الجائحة، واستنزف الاحتياطيات المالية، وقلل إلى حد كبير من الاستثمار الأجنبي.

وفي لندن، يعتقد مدير الاستثمار في “جي أيه أم” GAM لإدارة الأصول، بول ماكنمارا، أن “تلك الخطوة لا تشير إلى فهم كيفية عمل الأسواق والأدوات المحدودة المتاحة الموضوعة تحت تصرف تركيا”. وفي اليوم نفسه، أعلنت أنقرة أنها ستنسحب من “اتفاق إسطنبول 2011” المتعلق بمكافحة العنف ضد المرأة، وشجبت الاتفاق الدولي باعتباره خطة هدفها “تطبيع المثلية الجنسية” وهو ما لا يتوافق مع “القيم الاجتماعية والعائلية” التركية. واستطراداً، أطلق رفض المعاهدة احتجاجات من قبل مناصرين لحقوق المرأة يشعرون بقلق من العنف المستمر ضد النساء التركيات، لكنه أسعد المحافظين والتقليديين الذين يشكلون القاعدة الشعبية للسيد أردوغان.

وجاءت تحركات عطلة نهاية الأسبوع الماضي بعد أيام من تقدم السلطات بدعوى قضائية بشأن حل ثالث أكبر حزب سياسي في البلاد، وهو “حزب الشعوب الديمقراطي” اليساري الذي يتزعمه الكرد، متهمة إياه بإرساء علاقات مع “حزب العمال الكردستاني” المحظور. وأدت الدعوى القضائية إلى مواقف مستنكرة من الولايات المتحدة ومسؤولين في الغرب.

وبصورة عامة، تأتي هذه التحركات في ظل اقتصاد فاتر في شكل عام وانحدار كبير في تأييد استطلاعات الرأي للسيد أردوغان وحزبه، “العدالة والتنمية”، وحليفه الأصغر، حزب “الحركة القومية” اليميني المتطرف.

وكذلك تظهر استطلاعات متعددة أجريت على مدى عدة أسابيع أن شعبية تحالف السيد أردوغان تقل عن 50 في المئة، مع اكتساب أحزاب المعارضة من يسار الوسط ويمين الوسط مزيداً من الدعم، إضافة إلى حصول الأحزاب التي شكلها زعماء سابقون في حزب “العدالة والتنمية” على ما لا يقل عن خمسة في المئة من التأييد. وفي رأي عن تلك المعطيات، يرى سليم سازاك، المحلل السياسي في “جامعة بيلكنت” بأنقرة و”جامعة براون” الأميركية، “أن حيز المناورة السياسية الذي يتمتع به أردوغان محدود بعض الشيء. إذ لا يستطيع أن يتخلص من القوميين. ولا يستطيع أن يكسب الكرد، بل يتعين عليه أن يعزز القاعدة [الشعبية التي تسانده]”.

في ذلك الصدد، ينال وقف العمل بـ”اتفاق إسطنبول” موافقة المحافظين ثقافياً. ويخضع فرض الضغوط على “حزب الشعوب الديمقراطي” لمطالب القوميين الذين يشكلون جزءاً أساسياً من تحالف السيد أردوغان. ويشير أحد المحللين المقربين من الحكومة إلى أن “حزب الحركة القومية لا يطلب كثيراً، لكنه عندما يطلب شيئاً يتوقع تحقيقه”. واستطراداً، يعزز التخلص من محافظ المصرف المركزي المحترم ناجي أغبال الذي رفع معدلات الفائدة، وروض التضخم وحقق الاستقرار لليرة، حظوظ المصدرين والمصنعين، في حين يضر بالممولين والمصرفيين ويخفض تدريجياً مدخرات سكان المدن.

ففي ذلك الشأن، يشار إلى أن معدلات الفائدة المرتفعة التي احتقرها السيد أردوغان لكن خبراء الاقتصاد طالبوا بها لكبح جماح التضخم، تلحق الضرر بالمصنعين العاملين في الأناضول الذين يتجهون إلى التصدير ويشكلون جزءاً متزايداً الأهمية من قاعدته [أردوغان] السياسية. ومن ناحية أخرى، يلحق التضخم المرتفع الضرر بالطبقات الحضرية العاملة في قطاعي التمويل والخدمات، [ويأتي منها] أعضاء الطبقتين المتوسطة والعليا المتوسطة الذين صوتوا فترة طويلة ضد حزب “العدالة والتنمية” والسيد أردوغان. وبهدف مساعدة مؤيدي الحكومة، أعلنت وزارة التجارة التركية عن خطة ترمي إلى “إعادة هيكلة” ديون أصحاب المتاجر الصغيرة.

وفي تعليق على ذلك، يرى السيد سازاك “أنها عملية إعادة توزيع الثروة. وسوف يتأكد السيد أردوغان من أن العاملين من أصحاب الياقات الزرقاء [من يعملون في وظائف غير مكتبية] على ما يرام. وسيتأكد من أن برامج الرعاية الاجتماعية تهتم بهم”.

وفي إطار عام، ثمة مجازفة خطيرة في مناورة السيد أردوغان المتعددة الاستهدافات الرامية إلى تعزيز قبضته على السلطة. فقد انتقدت الولايات المتحدة وألمانيا وغيرهما القرار الذي اتخذته تركيا بالانسحاب من “اتفاق إسطنبول” وهجومها على “حزب الشعوب الديمقراطي”.

وإذ جاء في بيان من الرئيس الأميركي جو بايدن، “يتعين على البلدان أن تعمل على تعزيز التزاماتها وتجديدها بشأن إنهاء العنف ضد المرأة، وليس رفض المعاهدات الدولية التي تهدف إلى حماية النساء ومساءلة مرتكبي الجرائم”.

وعلى نحو مماثل، شكلت القرارات التي اتخذتها تركيا في عطلة نهاية الأسبوع سبباً في إبطال أي نية دبلوماسية طيبة بين الحلفاء في “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) نتجت عن التهدئة الأخيرة للتوترات مع فرنسا في شأن ليبيا، ومع اليونان وقبرص في ما يخص النزاعات البحرية في شرق البحر المتوسط.

وفي السياق نفسه، قد تؤدي هذه التحركات أيضاً إلى نتائج عكسية على المستوى المحلي من خلال تشجيع التعبئة في صفوف النساء والكرد على نحو قد يلحق الضرر بتوقعات السيد أردوغان في انتخابات 2023، أو كما يتكهن البعض، حين تحل انتخابات مبكرة قد يتقرر إجراؤها في منتصف 2021. فقد دعت مجموعات حقوق المرأة بالفعل إلى أسبوع من الاحتجاجات ضد قرار رفض اتفاق عام 2011، الذي تعهدت البلدان الأوروبية فيه باتخاذ الإجراءات اللازمة التي تفيد في مكافحة العنف المستند إلى النوع الجنسي.

وكذلك قد يخرج الاقتصاد التركي أكثر عن نطاق السيطرة. إذ أعلن المستثمرون الدوليون الذين كانوا ذات يوم ركيزة للاقتصاد التركي المزدهر، أن تلك البلاد [تركيا] منطقة محظورة على استثماراتهم، ما أدى إلى تفاقم البطالة. ويضاف إلى ذلك أن مؤيدي الحكومة عبروا عن انزعاجهم من التحركات الرامية إلى إبعاد السيد أغبال. وتجاهد الشركات والجهات العامة التركية كي تسدد نحو 435 مليار دولار أميركي (نحو 311 مليار جنيه إسترليني) في ديون مقومة بالعملات الأجنبية.

في إطار تلك المعطيات، يشير أوميت أوزلالي، نائب رئيس “حزب الخير” المعارض والمستشار السابق للمصرف المركزي، إلى أن “كل رجل أعمال نتحدث معه سراً يعبر عن مخاوفه وآرائه السلبية، لكنه يعبر في العلن عن مشاعر إيجابية للغاية. إذ يتعرض مجتمع الأعمال إلى ضغوط شديدة، ولا يستطيع أن ينتقد الممارسات الحكومية”.

في مسار مواز، فمع استمرار الجائحة في استنزاف الاقتصاد، واكتساب حزبين منشقين عن حزب “العدالة والتنمية” في الأقل، مزيداً من الدعم في الاستطلاعات، ربما بات السيد أردوغان يظن الآن أن الوقت حان للعمل.

ويخلص السيد سازاك إلى أنه “إذا كنتم تتوقعون أن تتدنى أرقام الاستطلاعات أكثر مما هي عليه الآن (خطر داهم)، فهذا هو الوقت المناسب لكم للعمل [أي أردوغان]. تطردون السيد أغبال. تضخون المال في البرامج العامة. تقسمون المعارضة وتحيرونها. ربما تفوزون بالانتخابات خلال خمسة أو ستة أشهر. إنه [أردوغان] يتمتع بموقع متقدم (لتحقيق ذلك)، لكنها تمثل مجازفة خطيرة”.

© The Independent