رامي ابو ذياب يكتب ..
ورُونَا وَباءٌ يَأْتي وَيَذْهَبُ كَغَيْرِهِ مِنْ الأَوْبِئَةِ ، اَلْإِنْسانُ المادّيُّ لَنْ يَرَى فِي كُورِنَا سِوَى فَيْروسٍ أَخْطَأَتْ الطَّبيعَةَ فِي إِظْهارِهِ ثُمَّ سَيَأْتِي الإِنْسانُ لِيُصْلِحَ هَذَا الخَطَأَ وَانْتَهَتْ القَضيَّةُ .
لَكِنَّ كُلَّ مِنْ يُؤْمِنُ بِأَنَّ هُنَاكَ خَالِقًا مُدَبِّرًا لِهَذَا الكَوْنِ بِتَفاصيلِهِ يَجِبُ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ الغايَةِ والْفَلْسَفَةِ مِنْ وَراءِ هَذِهِ الأَوْبِئَةِ وَالِابْتِلَاءَاتِ عُمُومًا ، وَإِلَّا كَانَتْ عَبَثًا لَا دَاعِيَ لَهُ .
وَفِي اعْتِقادِي أَنَّ الآيَةَ الرّابِعَةَ وَالعِشْرِينَ مِنْ سورَةِ يونُسَ تَشْرَحُ لَنَا بِوُضُوحٍ لِمَاذَا تَتَدَخَّلُ الطَّبيعَةُ لِتَخْذُلَ الإِنْسانُ فِي مَراحِلَ مُعَيَّنَةٍ مِنْ التّاريخِ ، مِثْلَ هَذَا الخِذْلانِ ضَروريٌّ وَمُهِمٌّ لِيَضْبِطَ حَرَكَةَ الإِنْسانِ فِي التّاريخِ ، فَكُلَّمَا اعْتَقَدَ الإِنْسانُ أَنَّهُ هَيْمَنَ عَلَى الطَّبيعَةِ يَظْهَرُ فِي الطَّبيعَةِ نَفْسِها مَا يُرْجَعُ إِلَيْهُ وَعْيُهُ .
{ إِنَّمَا مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَماءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النّاسَ والْأَنْعامَ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرَنا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنْ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
تَشْرَحُ لَنَا هَذِهِ الآيَةَ كَيْفَ أَنَّ الإِنْسانَ حِينَ يَرَى الطَّبيعَةَ تَمْدَهُ بِكُلِّ مَا يُرِيدُ فَإِنَّهُ يَرْكَنُ إِلَى ذاتِهِ ، فَهُوَ حِينٌ رَأَى السَّماءَ تَخْدِمُهُ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ ، والْأَرْضُ تَخْدِمُهُ بِإِنْباتِ الزَّرْعِ والثِّمارِ ، والْأَنْعامِ تَخْدِمُهُ مَأْكَلًا وَمُرَكَّبًا ، هُنَا يَبْدَأُ الإِنْسانُ يَظُنُّ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الطَّبيعَةِ { وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } وَحِينَ يَصِلُ الإِنْسانُ إِلَى هَذِهِ المَرْحَلَةِ يَأْتي التَّدَخُّلُ الإِلَهيُّ لِإِصْلاحِ الوَعْيِ الإِنْسانيِّ ، فَيُزيلُ كُلُّ هَذِهِ النِّعَمِ فَجْأَةً ، لَيَجْعَلَ الإِنْسانَ فِي مواجَهَةٍ مُباشِرَةٍ مَعَ قُدُرَاتِهِ ، إِنْ كَانَ كُلُّ مَا سَبَقَ نَابِعًا مِنْ قُدْرَتِكَ أَيُّهَا الإِنْسانُ فَهَيّا أَعَدَّ المَشْهَدَ كَمَا كَانَ ، أَنْزَلَ الْمَاءُ مِنْ السَّماءِ واسْتَنْبَتِ الأَرْضُ ، وَحِينَ يَكْتَشِفُ عَجْزُهُ سَيُدْرِكُ أَنَّ الأَمْرَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَمِن الطَّبيعَةِ .
والْيَوْمَ لَطَالَمَا كَرَّرَ الإِنْسانُ أَنَّنَا نَعيشُ فِي مَرْحَلَةِ ” انْتِصارِ العِلْمِ ” ، وَهِيَ لَا تَعْنِي سِوَى انْتِصارِ الإِنْسانِ عَلَى الطَّبيعَةِ { وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } فَكَانَ مَتَعْينا أَنْ تَتَكَرَّرَ السُّنَّةُ الإِلَهيَّةُ بِتَدَخُّلِ الطَّبيعَةِ لِتُعِيدَ الإِنْسانَ إِلَى وَعيِهِ ، لَكِنَّ المُفارَقَةَ أَنَّهَا لَمْ تَتَدَخَّلْ بِاَلْزَلازِلِ وَالفَيَضَانَاتِ مِمَّا يَكْبُرُ فِي أَعْيُنِنا ، بَلْ تَدَخَّلَتْ عَبْرَ كائِنٍ لَا نَرَاه ، وَكَأَنَّ الطَّبيعَةَ أَرْسَلَتْ أَقَلَّ مَا لَدَيْهَا تَقْريعًا لِهَذَا الإِنْسانِ المُتَعَالِي ، وَبِهَذَا الكائِنِ اَلَّذِي لَا يَرَى صَارَ نِصْفُ سُكّانِ الأَرْضِ فِي إِقامَةٍ جَبْريَّةٍ فِي مَنازِلِهِمْ ، وَفِي ساعَةٍ مِنْ نَهارِ صَارَ ” الشُّعورُ بِالْعَجْزِ ” هوَ اللُّغَةُ اَلَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا جَميعُ العالَمِ فَجْأَةً ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نَحْتَفِلْ لِلتَّوِّ بِانْتِصَارِ العِلْمِ .
كُلُّ هَذِهِ الِابْتِلَاءَاتِ الإِلَهيَّةِ المُتَكَرِّرَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لَيْسَ لَهَا سِوَى غايَةٍ إِلَهيَّةٍ واحِدَةٍ نَجِدُهَا فِي نِهايَةِ الآيَةِ { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِي هَذِهِ الرَّسائِلِ الإِلَهيَّةِ ، فَلَيْسَ لَكَ مِنْ هَذِهِ الِابْتِلَاءَاتِ سِوَى الشَّقاءِ الصَّرْفِ .