نوال السعداوي وظفت الكتابة لصالح النضال الإنساني الشامل


واجهت مجتمع الاستبداد الذكوري بجرأة نادرة وأدرجت في قائمة المطلوبين

سيد محمود باحث مختص في الشأن الثقافي

رحيل الكاتبة المصرية الشهيرة نوال السعداوي عن عمر ناهز الـ90 عاماً، أعاد إحياء حدة الاستقطاب الفكري في شأن تقييم إنتاجها وأدوارها في الثقافة العربية. واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بحملات من الهجوم المتبادل بين مؤيدي أفكار السعداوي ومنتقدي أعمالها ومواقفها.

وعلى الرغم من أن صاحبة “المرأة والجنس” قضت السنوات الخمس الأخيرة، في ما يشبه العزلة، إثر شيخوختها، فإن خبر الموت أعادها من جديد إلى الواجهة، وجعل قراء أعمالها يستعيدون سجالهم القديم، وكأنها لا تزال حية تواصل أداء أدوارها المشاكسة.

شهدت نوال السعداوي التي جمعت بين الطب والكتابة والنضال، التحولات الاجتماعية العميقة التي أحدثتها ثورة يوليو (تموز)، وبدا واضحاً انحيازها إلى الطبقة الفقيرة، لكن هذا الانحياز لم يمنع ابنة الطبقة الوسطى المصرية من تبني قضايا مجتمعية كسرت الطابع البرجوازي التقليدي في تناول قضية المرأة، إذ كانت الحركة النسائية قبل دخولها هذا المعتزل، عاجزةً عن الربط بين معاناة المرأة والأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسببه لها. وكانت أقرب إلى خطاب “الإصلاح الاجتماعي”، وتركزت مطالبها في جوانب التعليم والإصلاح التشريعي، لكن نوال التي جاءت من وسط شبه ريفي، كانت على وعي تام بما تعيشه الفئات المعدمة، وتشكل وعيها بدءاً من أربعينيات القرن الماضي، على خلفية أفكار تقدمية تعي تأزم المسألة الاجتماعية في مصر، بطريقة جعلت من فعل الثورة حلاً وحيداً.

عقب تخرجها عملت “طبيبة امتياز” في قصر العيني، ثم فصلت بسبب آرائها وكتاباتها بعد ستة‍ قرارات أصدرها وزير الصحة في ذروة تأزم الحديث حول الديمقراطية عقب أزمة مارس (آذار) 1954.

مذكراتي-في-سجن-النساء-1-715x1024-1.jpg

المذكرات الشهيرة (دار الآداب)

وجاءت شهرتها الحقيقية من احترافها الكتابة مع نشر كتابها “مذكرات طبيبة” عام 1960، الذي تضمن مشاهداتها اليومية، وكان أقرب ما يكون إلى يوميات كاشفة عن بؤس الوضع الصحي للفقراء المصريين، وتضمن كذلك ما يمكن أن تهمس به الفقيرات لطبيبة تولت علاجهن في المراكز الطبية الريفية.

الدور الإجتماعي للأدب

أكدت السعداوي خطابها النسوي بوضوح في كتابها “المرأة والجنس”، الذي صدر في عام 1969، وعرف انتشاراً واسعاً في قطاعات شبابية كثيرة، خرجت من ثورة الغضب في عام 1968، وقُورن بينه وبين كتب الفرنسية سيمون دي بوفوار في ما يخص المجتمعات الغربية.

وسرعان ما بلورت السعداوي في الحركة النسائية العربية خطا متميزاً، عبر ربطها بين خطاب تحرر المرأة ومعركة التحرر الاجتماعي والاقتصادي، وراحت تلفت إلى أهمية استخدام الأدب كوسيط لنقل خطابها الثوري.

انطوت ممارستها الأدبية على شيء من الاستخدام أو التوظيف، كان لهما أثر لاحقاً على طرق تلقي أعمالها لدى القراء على اختلافهم. وظلت أعمالها هذه معزولة عن السياق العام للأدب المصري، فلم تحظَ مثلاً بمكانة بنت جيلها الكاتبة والمناضلة لطيفة الزيات، وتم أيضاً استبعاد أعمالها التي ترجمت إلى لغات عالمية عديدة فيما بعد، من السياق الأدبي، وتم تلقي أغلبها في السياق الإصلاحي، كخطابات تسعى إلى التغيير الاجتماعي أكثر من كونها نصوصاً أدبية خالصة، بسبب إصرارها على تبني خيط “سيروري” في أغلب تلك الأعمال. وقد أسقطت الكاتبة ما يمكن اعتباره “الحائط الرابع” بينها وبين قرائها.

امراة.png

إحدى رواياتها (مكتبة مدبولي)

وخلال حقبة السبعينيات المصرية التي سعى خلالها الرئيس السادات إلى إضفاء طابع ديني على نظامه السياسي، ضمن سياسات الثورة المضادة التي تبناها، وإصراره على تبعية نظامه للسياسات الأميركية، إلى جانب مسعاه للتطبيع السياسي مع إسرائيل، أنهت السعداوي عملها طبيبة، وأظهرت مقاومة واضحة لهذه السياسيات، لا سيما الخط الرأسمالي لنظام الحكم. وتوالت أعمالها المهمة، مثل “الأنثى هي الأصل” عام 1971، و”الرجل والجنس” عام 1973، و”الوجه العاري للمرأة العربية” عام 1974، و”المرأة والصراع النفسي” عام 1975، و”امرأة عند نقطة الصفر” عام 1973، ورواية “الحب في زمن النفط”، التي لا تزال تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في بعض الدول العربية.

وفي كل أعمالها أكدت مشروعها القائم على فضح سياسات الإفقار والتهميش في المجتمع المصري، إلى جانب رفض تبعية مصر للولايات المتحدة الأميركية وبعض الأنظمة العربية، وخاصة أن المجتمع المصري عرف، بدءاً من تلك السنوات ظاهرة تزويج الفتيات الصغيرات لبعض رجال الأعمال العرب، وعرفت هذه الظاهرة باسم “أسواق المتعة”.

ثقافة الأنساق

وتدريجياً، تأكدت لدى السعداوي رغبتها في مواجهة أنساق القيم الاجتماعية والدينية والسياسية التي تكرس تخلف المرأة العربية، الأمر الذي جعلها في مواجهة دائمة مع خطابات الأصولية التي شاعت في المجتمع المصري، والتي ضاعف من حجم تأثير أفكارها طابعها الصدامي المتطرف في التعبير عن آرائها بجرأة لم تكن معتادة، لذلك لم يكن من المفاجئ أن تكون صاحبة “المرأة والجنس” ضمن مجموعة الكتاب والمثقفين الذين اعتقلهم السادات في أيامه الأخيرة التي سبقت اغتياله.

وعلى الرغم من أنها ظهرت في أول لقاء جمع الرئيس المصري حسني مبارك والمثقفين، عقب الإفراج عنهم، فإن تلك الصورة الشهيرة لم تشفع لها لدى أجهزة الأمن والمصادرة، فظلت أعمالها معرضة دائماً للمنع. وزاد من ذلك أن جمعية “تضامن المرأة العربية” التي أسستها وترأستها، كانت من بين أولى الجمعيات الأهلية التي سعى نظام مبارك للتخلص منها وإغلاقها، إلى جانب التشويه المتعمد لما كانت تقوم به من أنشطة ووسمها بـ”العمالة للغرب”.

مكشيكو.jpg

دكتوراه فخرية من جامعة مكسيكو (أ ف ب)

وفي كتابها الرئيس “الوجه العاري للمرأة العربية” بلورت أفكارها في نقاط رئيسة واضحة، ترى أن الثقافة العربية ليست وحدها الثقافة التي حولت المرأة إلى سلعة، وأن اضطهاد المرأة لا يرجع إلى الأديان، وإنما إلى النظم الطبقية الأبوية في المجتمع البشري كله. ورأت في كتابات كثيرة أن في التراث العربي والإسلامي نقاطاً إيجابية يجب البحث عنها وإظهارها، مع العلم بأن النساء هن من يقمن بتحرير أنفسهن، وهذا لن يتم إلا بقوة التنظيم. وبفضل هذه الروح التي عدتها النسويات “مقاومة” تحولت الراحلة إلى “أيقونة” للنضال النسوي، وهدفاً في آنٍ واحد لحملات تكفيرية لم تتوقف، ولن تتوقف حتى عقب موتها.

وبفضل تورطها في المساجلة انطوت بعض أداءاتها على نمط من أنماط الأداء “الشعبوي” الذي ضمن لها التواصل مع شرائح أوسع من القراء الجدد، الذين كانوا لا يزالون متعطشين للآراء الصادمة التي تقولها وتيسر لهم فرصة مواجهة خطابات الانغلاق.

وخلال سنوات حكم الرئيس مبارك، كانت مؤلفاتها الأكثر مصادرة “سقوط الإمام”، و”الإله يقدم استقالته”، الذي اضطرت لنشره بعنوان “جنات إبليس”. والكتابان، بحسب تصريحاتها، جعلاها دائماً على رأس قوائم الاغتيالات التي وضعها إسلاميون.

وعقب احتجاجات 25 يناير (كانون الثاني) في مصر عام 2011 ظهرت السعداوي في ميدان التحرير، معتقدة أن معركتها مع الاستبداد قد انتهت إلى غير رجعة. إلا أنها في محاضرة قدمتها في مهرجان الإمارات الأدبي في 7 مارس (آذار) الماضي، ربطت من جديد بين أنظمة الاستبداد التي عرتها رواية جوروج أورويل الشهيرة “1984”، وما تعيشه بلدان العالم العربي في اللحظة الراهنة.

زينة.jpg

من رواياتها الأخيرة (دار الساقي)

لم تشأ السعداوي أن تقتصر معاركها مع السلطة السياسية، وإنما واصلت في مقالاتها التي كتبتها أخيراً في صحيفة “الأهرام” معركتها مع العقل الأصولي الذي يبرر الاستبداد السياسي والاجتماعي والديني، وهي المعركة التي جعلتها هدفاً لحملات استهداف معنوي أشاعت خبر وفاتها أكثر من مرة، وتم الترويج له على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتباره صورة من صور الانتقام الديني.

وبعد موتها، وعقب 70 عاماً من العمل المتواصل، ظلت صاحبة “مذكرات طبيبة” في مواجهة مع نمطين من التفكير، الأول تبنته بعض الأصوات داخل المجموعة الثقافية التي اعتبرت خطابها الأدبي والاجتماعي ينطوي على نزعة استشراقية. وتحججت تلك الأصوات برواج ترجماتها إلى لغات العالم وفرص أسفارها إلى دول الغرب، وقيامها بالتدريس في جامعات غربية شهيرة. أما النمط الثاني فتركز في الجماعات الأصولية الوثيقة الصلة بالخطاب الأصولي، والتي ترى أن كتبها تنطوي على إساءة بالغة للأديان، ولذلك كانت تدعم دوماً المطالبات بمصادرة مؤلفاتها.

وبين هذين النمطين ستمكث السعداوي، ضحية القراءات السهلة، التي تنتجها حالات الاستقطاب، ولا بد من فرص أفضل لقراءة ظاهرتها التحررية ووضعها في سياق جديد، لكن ما يبقى هو أن صاحبة “امراة عند نقطة السفر” ستبقى حاضرة بقوة، بفضل الدور الذي لعبته وزاوجت فيه بين عمل المحلل النفسي والمؤرخ وعالم الأنثروبولوجيا والأديان المقارنة. وقد مكنت الكثير من النساء العربيات في العمل على تغيير أقدارهن متحولة إلى “أيقونة” نسائية وفكرية هدفها التمرد ومواجهة السائد بحثاً عن الأمل، ووصولاً إلى شاطئ السلام.