السياسة الخارجية الأميركية: الجديد والمتغير والمستمر


تحكمها الدوافع نفسها التي تحكم اقتصادها وأهمها ضمان أكبر المكاسب والحد من الخسائر بعيداً عن العواطف والنظريات والخطابات الرنانة

نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق

بعد أن خرجت أميركا من سحب السباق الانتخابي الرئاسي وتسلم بايدن القيادة في أعقاب أحداث مضطربة، آن الأوان لقراءة هادئة للسياسات الخارجية الأميركية ومدى الاستمرارية والاختلاف في ما بين إدارتي ترمب وبايدن للاستعداد للسنوات المقبلة.

يبالغ بعض المحللين في تأكيد أن سياسات بايدن تختلف تماماً عن تلك التي تبناها سلفه، مع تأكيدات الإدارة الجديدة على عودة الدور الأميركي الدولي من خلال دبلوماسية نشطة في المقام الأول، وأغلب هؤلاء من مسؤولي الإدارة أو الديمقراطيين من يمين الحزب أو وسط النخبة السياسية الأميركية.

ويعتقد الجناح اليساري أو التقدمي للحزب الديمقراطي ومعهم اليسار الجمهوري الأقرب إلى الوسط السياسي الأميركي أن ممارسات بايدن حتى الآن لم تختلف كثيراً عما مضى، منوهين أن العقوبات ضد إيران قائمة، وتم استهداف مواقع إيرانية في سوريا عسكرياً، وتعتبر الصين التحدي والخطر الأكبر للولايات المتحدة، كما انفتحت الإدارة على مختلف قيادات العالم، بما في ذلك من كان يتم توصيفها على أنها “أوتوقراطيا” وغير ملتزمة “القيم” الأميركية.         

تدفع الولايات المتحدة منذ زمن بعيد بأن لها وضعية مميزة وفريدة، وتتخذ مواقف أحادية تتناقض كثيراً مع أسس النظام الدولي المعاصر، الذي من المفترض أن تؤيده باعتبارها دولة ديمقراطية، كما أنها وسويسرا من الدول القليلة للغاية التي تعتبر أن قوانينها الفيدرالية تجبّ القانون الدولي، وهو ما جعل الولايات المتحدة لا تنضم لعدد من المعاهدات أو الاتفاقيات الدولية في مجالات مختلفة ومتنوعة، منها على سبيل المثال اتفاقية حماية الطفل، والمحكمة الجنائية الدولية، بل طالبت دولاً عديدة بالتعهد بأنها لن تُخضع المواطنين الأميركيين لقوانين المحكمة.     

 واللافت أيضاً، من إصدارات مركز أبحاث الكونغرس الذي يوفر المعلومات والتقديرات للهيئات التشريعية أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء النظام الدولي الجديد على ركائز ميثاق الأمم المتحدة، أقدمت الولايات المتحدة على استخدام قوتها العسكرية خارج حدودها أكثر من 65 مرة، أغلبها تنفيذاً لسياسات أحادية أو حفاظاً على مصالح خاصة بها، على الرغم من أن الميثاق يحظر استخدام القوة إلا دفاعاً عن النفس.

 وحتى لا تفسر ملاحظاتي بغير ما أبتغيه يهمني أن أسجل أنني أؤيد تحقيق الديمقراطية الوطنية في دول بلاد العالم، إذا كانت مما يتطلع إليه شعبها، الذي هو بإيجاز حكم الفرد للفرد، بل أؤيد بقوة ضرورة احترام حقوق الإنسان المجتمعية وكذلك الفردية، بكل ما يتطلب ذلك من شفافية ومحاسبة ومشاركة في الحكم الرشيد، وأدعو الدول والمجتمعات إلى السعي الدائم للإصلاح الذاتي بدافع وطني، وعدم التردد في الإصلاح لمجرد أن البعض من الخارج يدفع به، فالاعتبار الحاكم يجب أن يكون الإرادة  الشعبية والمصلحة الوطنية.

وإنما طرحت هذه الملاحظات لأنني أتحفظ على مقولة أن إدارة بايدن تمارس سياسة خارجية مبنية على “القيم”، لأن الممارسات الأميركية عبر السنين أفقدت هذه المقولة المصداقية، ومن الأفضل أن تلتزم وتناشد الدول بالالتزام “بقواعد وأسس النظام الدولي”، بكل ما تحمله الدساتير والمواثيق الدولية. 

أما عن التنبؤ بما هو قادم، فمن المفيد مراجعة خطاب وزير الخارجية الأميركي الأخير وملاحظات الرئيس بايدن بشأن “التوجيه الاستراتيجي المؤقت” عن الأمن القومي ومقارنة محتواها مع موقف ترمب، وكلاهما صدر خلال مارس (آذار) الحالي.

وسيتضح من تلك المقارنة أن الاختلاف الأكبر هو أن مدخل الإدارة الحالية هو استعادة الاستقرار في النظام الدولي مع حلفائها، وفي الإطار المتعدد الأطراف، واعتبار روسيا غريماً أساسياً، أي العودة إلى الماضي، وذلك على نقيض كامل مع مواقف الإدارة السابقة من حيث المنهجية ونبرة الخطاب السياسي.                  

وهناك تباين جزئي في بعض المواقف الأخرى، حيث ترى الإدارة الحالية أن الصين هي المنافس والغريم الاستراتيجي المقبل، بما يهدد أسس النظام الدولي، وهو ما عكسه الاجتماع الأميركي الصيني في مدينة انكورج منذ أيام معدودة، في حين ركزت الإدارة السابقة على ممارسات الصين التجارية غير العادلة، وتؤيد الإدارة الحالية إسرائيل وبقوة في حين أيد ترمب اليمين الإسرائيلي، إلا أن بايدن لن يتراجع عن أي من تعهدات سلفه لإسرائيل، وتسعى الإدارة الحالية باهتمام إلى تجنب الدخول في صدام عسكري قوي  للتحاور مع إيران، وعلى الرغم من حدة لغة ترمب كان ذلك أيضاً موقفه، حيث سعى إلى عقد محادثات مباشرة معها خلال دورة الجمعية العامة واكتفى بمد العقوبات ضد إيران إرضاء لليمين الإسرائيلي.

وأبرزت الإدارة الحالية مسألة دعم الديمقراطية عالمياً خلال الحملة الانتخابية، ثم خففت لهجتها مع تولي السلطة  وأكدت ضرورة إعطاء الأولوية للمصالح الأميركية، في حين لم يهتم ترمب بذلك في خطابه السياسي، إنما ضغط وأفرج عن عدد من المحتجزين لدى دول أجنبية.

وتختلف الإدارة الحالية عن سابقتها حول اليمن جزئياً، بوقف توريد بعض الأسلحة الهجومية، إنما استمرت في توريد الأسلحة الدفاعية، ولا يرتاح بايدن لتصرفات أردوغان وإنما يقدر أن تركيا عضو الحلف الأطلنطي ومفيدة في موازنة نفوذ روسيا وإيران في المشرق.

أما أقرب نقاط الاتفاق بين الإدارتين فمنها أن الاهتمام الأساسي لأميركا في ليبيا هو كبح جماح تنامي النفوذ الروسي، فضلاً عن الربط بين السياسة الخارجية ومصالح المواطن الأميركي، وهو ما أكده بلينكن بالتشديد على أن أهداف السياسة الخارجية هي تأمين المواطنين وخلق فرص لهم والتصدي للأزمات الدولية التي تشكل مستقبلهم، وهو موقف قريب جداً من سياسة ترمب الخاصة بـ”أميركا أولاً” وإنما بألفاظ وبنبرة أقل حدة وتهديداً.

علينا جميعاً متابعة السياسات الأميركية الخارجية نظراً لثقلها الأمني والاقتصادي والسياسي، وهناك كثير من السياسات الممتدة عبر السنين دون تغير، وأيضاً سياسات تتغير جزئياً مع اختلاف التوجهات بين إدارة وأخرى، أو نتيجة لضغط الأحداث والتطورات المستجدة، على أن نأخذ في الاعتبار أن السياسة الخارجية الأميركية تحكمها الدوافع نفسها التي تحكم سياساتها الاقتصادية، وأهمها ضمان أكبر المكاسب والحد من الخسائر بعيداً عن العواطف والنظريات والخطابات الرنانة.