دعاء الشامي
صحفية مصرية
في طريقي إلى العمل عادة أجري مكالماتي المؤجلة مع صديقاتي اللاتي أصبحن في أنحاء العالم؛ فتلك في نيويورك والوقت عندها مناسب الآن وهذه في مصر فربما يكون مبكرًا جدًا لكنها حتما استيقظت لتجهيز أبنائها للمدرسة، وربما تنتابني حالة من الرغبة في الصمت فأستمع إلى الموسيقى. كان هذا روتيني اليومي حتى ذلك الصباح الذي ولجت فيه تطبيق كلوب هاوس، أصبح وقت المشاوير هو الوقت المثالي لراديو الواقع كما قررت تسميته، أفتح التطبيق وأتجول بين غرفه باحثة عما يستدعي الاهتمام أو الضحك أيهما وجدت!
في البداية لم أكن أرغب في الحديث، دخلت مستمعة فقط وبعد ذلك لم أشعر بنفسي إلا وأنا أرفع يدي لأحكي عن طريقة إعدادي للأرز المعمر الفلاحي بالسمن البلدي.. حكيت بحماسة واستمع الآخرون ثم تبادلوا الأسئلة معي وأجبتهم ووصلت إلى منزلي
أول تلك الغرف التي دخلتها كانت مع بداية انتشار التطبيق عربيا بعد تلك الدعاية التي أهداها “إيلون ماسك” عنه فثارت ضجة وتضاعف المستخدمون في غضون أيام.
ابتهجت عندما شاهدت عنوانها “ازاي الرز المفلفل ميعجنش”، وتعني كيف يمكن أن تطبخ الأرز من دون أن يخربه الماء.. ضحكت من قلبي لدقائق وأنا أستمع لرجال أعرفهم يحكون عن خبراتهم وتجاربهم مع الأرز ويضيفون نصائح عملية للحفاظ عليه من الآفة الكبرى لأي طاه مبتدئ.. فهذا يقيس بالكوب وصديقنا ينصح بتهوية الطنجرة..
في البداية لم أكن أرغب في الحديث، دخلت مستمعة فقط وبعد ذلك لم أشعر بنفسي إلا وأنا أرفع يدي لأحكي عن طريقة إعدادي للأرز المعمر الفلاحي بالسمن البلدي.. حكيت بحماسة واستمع الآخرون ثم تبادلوا الأسئلة معي وأجبتهم ووصلت إلى منزلي، واستمرت الغرفة، وأتممت مهماتي المنزلية والسماعة في أذني مغلقة الميكروفون أجاري بناتي في طلباتهن وأردّ على زوجي باقتضاب لكن كل حواسّي كانت مع زوار الغرفة التي أعطتني معلومات جديدة تماما عن هؤلاء الذين أعرف بعضهم ولم وربما لن أقابل أغلبهم أبدًا..
بعد ساعات هرعت إلى النادي اللطيف صباحا وتنازلت عن اتصالاتي اليومية، وجدت غرفة عن الكتب المفضلة كانت خفيفة ومتنوعة، وكان أغلب زوارها من الكويت ومصر والسعودية وهذه الدول تقريبا الأكثر وجودًا هناك، فلا تكاد ترى غرفة خالية منهم في حين زادت غرف الأردن وفلسطين ولبنان في الأيام الماضية.. أنهيت الطريق وأنا أستمع ثم قررت طلب الكلمة وحكيت عن جو القراءة وكتبي المفضلة وعن مكاني المخصص للقراءة في المدينة التي أقطنها، وأخيرًا وصلت إلى عملي، وبصعوبة خرجت من جو الحكي اللطيف في هذا التطبيق بعد أن اقتنعت باستحالة إنتاج عمل مفيد وأنا أستمع إلى قصصه..
مساء وفي الوقت المخصص للمشي كنت على استعجال لترك البيت وصخبه، وسارعت إلى كلوب هاوس فوجدت مناقشة عن الهجرة والسفر لا أعرف فيها شخصًا واحدًا، دخلت لأعرف تجارب الآخرين ثم ما لبثت أن رفعت يدي أيضًا ومكثت أنتظر ساعتين إذ كان وقت رياضتي يقتصر على ساعة واحدة لكنه امتد هذه المرة من أجل البوح في النادي العلني للحكايات..
وبعد أن أنهيت مداخلتي لاحظت أنني أعطيت كمًّا هائلا من المعلومات الشخصية لغرباء تمامًا عني، وإن كنت قبل ذلك استمعت لهم وعرفت عنهم ما جعلني أتخيل حياة كل منهم، ففضلًا عن الصوت الذي استمعت إليه هناك صورة شخصية وعدد من الحكايات المترابطة.. إنها علاقة افتراضية متكاملة الآن.. على مدى أيام كنت أبحث عن الفرص لاقتناص وقت للحكايات.
سألت نفسي ما هذا السحر الذي يجعلنا نتحدث هكذا في مساحة مفتوحة مع غرباء أو حتى مع من نعرفهم قليلا في العمل أو من صداقات حولنا!؟ لماذا تتغير نوايانا قبل البدء وبعده وماذا يحدث عندما نضغط ذلك الزر الذي يدخلنا عوالم الآخرين!؟ هل هي الرغبة في البوح فقط أم التباهي بما لدينا أم هي نشوة المشاركة وجمال أن لنا صوتًا ونحكي ما نريده حتى لو لم نكن كذلك!؟اعلان
في إحدى الغرف تحدثت سيدة أعرفها شخصيًا، ألقت خطبة عصماء عن موضوع ما وكانت في غاية الحكمة والعقل، بيد أن ما أعرفه عنها أن حياتها فوضى تامة في النقطة ذاتها التي أوردتها في النقاش، وقتئذ تساءلت عما إذا كانت تفتعل تلك الحكمة أم إن هذا رأيها الفعلي ولا تستطيع تطبيقه في حياتها؟
لاحظت أن غرف العرب اقتصرت على الخفة في الصباح كقراءة الطالع وتلك المرتبطة بالنكات وشرب القهوة وتبادل الأغاني والأفكار الصباحية، في حين تتسم غرف الليل بالسخونة قليلا والميل إلى السياسة ومساراتها، أما وسط النهار فيكون ملعبًا لعالم رجال الأعمال وشراء الأسهم وبيعها، وبينهما تأتي اهتمامات مثل القراءة والمكتبات وتربية الأبناء، والموضوع الأكثر حضورًا بشكل يومي وربما تكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد هو الهجرة إلى الخارج أم العودة إلى الوطن!؟
رغم بساطة الضغط على زر في لوحة مفاتيحك لدخول حيوات كثيرين عبر العالم، فربما هذا التطبيق فاق تلك التي سبقته لأنه يحمل روح كل مشارك عبر صوته.. تلك البصمة التي لا يملكها غيره وتنقل عبر أيقونته الصغيرة بعضًا من طبائعه وحالته النفسية وظروفه ومستقبله أيضًا.
هذا العنوان يختصر كثيرًا من أحوال الشباب العربي ويعلن تلك الحالة التي يمرّون بها بعد أعوام من ثوراتهم. عاد هاجس الهجرة ليعلو فوق أفكار الاستقرار وإنشاء مشروعات ناجحة في بلدانهم، والغريب أن ذلك الحوار يكون متبوعًا دومًا بمتى يعودون إلى أوطانهم وهل يعودون بعد الانتهاء من تعليم الأبناء أم يستقرون في تلك البلدان التي تلقفتهم؟ هل يذوبون في نسيج دول منحتهم الأمان والاستقرار أم يتمسكون بحنينهم إلى أوطان شرّدتهم!؟
على مدار الأيام التالية قلّ حضوري بعد ملاحظتي أنه يأخذ من وقت الأسرة والقراءة والتطبيقات الأخرى وكذلك التواصل الحقيقي لكنني على العكس وجدت أصدقاء عليه طوال اليوم، وعندما أقول ذلك لا أبالغ فإنهم يشغلونه في بيوتهم ويصحبونه في السيارة والعمل وفي أثناء زياراتهم وكأنهم استأنسوا إلى تلك الفكرة التي تجعلهم جزءا حيًّا من حيوات آخرين، وأصبح يومهم عبارة عن غرف متتالية، فهل يدل ذلك على مدى بؤس حالهم أم جمال تلك المساحة حقًا!؟
ما شغلني أيضًا هو تحول كثير من مديري الغرف إلى مذيعين في غاية السيطرة والغضب والتحكم، فرغم كونه مساحة مفتوحة لأي من أشكال الحكي وقت الفراغ فإن هؤلاء يعدّون أنفسهم أصحاب المنبر ومن لديهم مقصلة القطع ومقص الرقيب، فذلك يحدد الوقت ببضع دقائق لكن الأغرب من قال إن الوقت هو 30 ثانية فقط! كيف يا صديقي تعتقد أنك ستستمع إلى حكاية عن موضوع عنوانه سطر في 30 ثانية!؟
والأكثر طرافة نسيان المشاركين أنهم في غرفة للغرباء فيخرجون من السؤال البسيط للغرفة إلى تفاصيل حياتهم الدقيقة جدًا متناسين أنهم على الهواء.
ورغم بساطة الضغط على زر في لوحة مفاتيحك لدخول حيوات كثيرين عبر العالم، فربما هذا التطبيق فاق تلك التي سبقته لأنه يحمل روح كل مشارك عبر صوته.. تلك البصمة التي لا يملكها غيره وتنقل عبر أيقونته الصغيرة بعضًا من طبائعه وحالته النفسية وظروفه ومستقبله أيضًا.
كما أنه يعد ساحة مفتوحة لجمع الأسرار التي ربما تحسبها في البداية عادية لكننا لو تخيلنا معًا أن شخصًا يريد أن يعرف عن آخر معلومات كاملة فما عليه إلا أن يتتبعه في دورانه بين تلك الغرف ليتعرف على نوع قهوته، والممشى الذي يقضي فيه ساعته المخصصة للرياضة، وأفضل أماكن الطعام في المدينة التي يقطنها، ورأيه في المدير المستبد، وحكاياته مع الزواج وسنواته العجاف، وأخيرًا كم ساعة ينامها يوميًا.. وبذلك يجمع معلوماته ويصنفها ليكمل الصورة.. فهل يتواصل انتشار كلوب هاوس أم تبقى نظرية الانبهار بالجديد أيامًا وتمضي؟
الجزيرة