استراتيجية جونسون لمستقبل المملكة المتحدة الجديد تحبس الأنفاس وتضع آسيا تحت المجهر
عيسى نهاري صحافي
في أعقاب الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، اندفع العالم متسائلاً، كيف ستبدو بريطانيا ما بعد بريكست بعد أن أخذت خطوةً أبعد قليلاً عن حلفائها التقليديين في محيطها الأوروبي؟ ومن هم أصدقاء لندن الجدد الذين يلبون احتياجات المرحلة الجديدة التي تقف الجزيرة العالمية على مشارفها؟ هذه الأسئلة احتفظ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بإجابتها لأشهر، مثيراً المزيد من التكهنات، قبل أن يكشف أمام البرلمان عن الجغرافيا الجديدة التي تنظر إليها بلاده، الأسبوع الماضي، ضمن استراتيجية جاء في طليعة أولوياتها، تعزيز نفوذ المملكة المتحدة، وإعادة موضعة دورها العالمي، بالإضافة إلى مواجهة التحديات التي تمثلها روسيا والصين، من خلال تعميق التحالفات في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والارتقاء بالحضور البريطاني في أفريقيا، والتعاون مع دول الشرق الأوسط في مجالي التجارة والتكنولوجيا.
ماهي ملامح “بريطانيا العالمية”؟
الاستراتيجية التي وُصفت بأنها أكبر عملية تحديث تطال السياسة الخارجية البريطانية منذ نهاية الحرب الباردة، تضمنت مراجعة مطولة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية، وأزاحت الستار عن طموح المملكة المتحدة لتكون نموذجاً لنهج متكامل لمواجهة التحديات الدولية. وفيما عد البعض هذه الخطة الساعية تسعى لإعادة بريطانيا للعمل كقوة رشيقة في مسرح العالم، انتقدها آخرون لكونها تمثل رغبة جونسون في إحياء الوجود البريطاني في آسيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى إنهاك الجيش، واستنزاف الموارد من أوروبا، والأخطر جر المملكة المتحدة إلى صراع عسكري مع الصين.
وتنص الوثيقة المكونة من 114 صفحة، على زيادة ميزانية الدفاع البريطانية بمقدار 16.5 مليار جنيه إسترليني (22 مليار دولار) على مدى أربع سنوات، وهي الميزانية الأعلى منذ نهاية الحرب الباردة، وزيادة إجمالي عدد الرؤوس النووية المسموح بتخزينها بنسبة 40 في المئة، ليصبح العدد الأقصى 260، بعدما التزمت سابقاً خفض مخزونها إلى 180 رأساً حربياً بحلول منتصف العام 2020، وتبرر الاستراتيجية هذه الخطوات غير المسبوقة بحجم التهديدات التي تواجه البلاد.
أثناء تقديمه المراجعة الحكومية الشاملة التي كتبها المؤرخ الأكاديمي في جامعة كينغز كوليدج لندن، جون بيو، دافع جونسون عن أهدافها، قائلاً، إن المملكة المتحدة “ستلعب دوراً أكثر نشاطاً في الحفاظ على النظام الدولي”، وستسعى لخلق امتداد عالمي لقدراتها العسكرية، بالإضافة إلى تطوير أجهزة الخدمة الدبلوماسية والقوات المسلحة وأجهزة الأمن والاستخبارات لتكون الأكثر ابتكاراً وفعالية، مع مواصلة الاضطلاع بدور رائد في مجالات الأمن والدبلوماسية والتنمية وحل النزاعات والحد من الفقر.
من المستفيد ومن المتضرر؟
بعد ابتعاد بريطانيا عن أوروبا، ترقب الجميع إطلالة جونسون للكشف عن ملامح بريطانيا الجديدة، ومخرجات المراجعة الشاملة. عندما أقرت الاستراتيجية بالمنافسة المحتدمة مع بكين وموسكو، استأنف رئيس الحكومة البريطانية سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى إيجاد أرضية مشتركة مع الرئيس الأميركي جو بايدن المعارض للانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
علاوة على ذلك، شدد جونسون، في خطابه أمام البرلمان، على التزام بريطانيا مساعدة الإدارة الأميركية في مواجهة التحديات الروسية والصينية، وقال إن الولايات المتحدة ستظل أكبر حليف لبلاده، وشريكاً وثيقاً في المجالات الأمنية والدفاعية والاستخباراتية، مؤكداً في الوقت نفسه على الدفاع عن قيم المملكة المتحدة ومصالحها.
كما بعثت الوثيقة البريطانية رسائل مطمئنة لواشنطن حين أقرت بالمخاطر التي تمثلها الصين، ووصفتها قوة منافسة، فضلاً عن اعتبار روسيا تهديداً لمصالح المملكة المتحدة، وذلك بعد ثلاث سنوات على الاشتباه بتورط مواطنين روس في تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته يوليا في سالزبوري بجنوب بريطانيا، وهو ما نفته السفارة الروسية لدى الولايات المتحدة، مشيرةً إلى عدم وجود أي أدلة تثبت تورط موسكو في الحادثة.
التزام بريطانيا دعم السياسة الخارجية الأميركية المناهضة لسياسات بكين وموسكو، يستمد قوته من تأكيدات جونسون المستمرة على دعم حلف الناتو، باعتباره حجر الأساس الدفاعي والأمني للمملكة المتحدة، ومن الوضع المتدهور الذي تعيشه العلاقات البريطانية الصينية، منذ أن فرضت لندن قيوداً تمنع وصول شركة الاتصالات، هواوي، إلى شبكة الجيل الخامس المحلية، بالإضافة إلى الخطاب البريطاني المندد بسلوك روسيا في العلن.
لكن، ومع ذلك، فإن الاستراتيجية البريطانية لن تكون بمنأى عن خلق اختلاف في وجهات النظر بين لندن وواشنطن، إذ تورد صحيفة “نيويورك تايمز”، أن عدم تركيز بريطانيا على علاقتها مع الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى خيبة أمل البعض في إدارة بايدن ممن يحاولون إحياء التعاون الدولي. كما قد يتسبب قرار المملكة المتحدة توسيع ترسانتها النووية، والتوقف عن الإعلان عن مخزونها التشغيلي من صواريخ ورؤوس حربية، بحدوث توترات بين البلدين.
وفيما سيبقى تركيز بريطانيا على مصالحها في آسيا بدلاً من أوروبا، أمراً مقلقاً لإدارة بايدن الساعية إلى إعادة توثيق تحالفاتها العابرة للقارات، سعى رئيس الوزراء البريطاني إلى تقريب وجهات النظر مع واشنطن، حين تبنى سياسات متوافقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، منها ما يخص تغير المناخ والصحة العالمية فضلاً عن الإنفاق العسكري البريطاني الذي يعد حافزاً لحلف الناتو في ظل تطلعات بايدن إلى تعزيز المنظومة المكونة من ثلاثين دولة.
من جانبه، اعتبر سايمون فريزر، الذي شغل منصب وكيل وزارة الخارجية البريطانية في الفترة بين عامي 2010 و2015، أن اللجوء إلى أميركا مسألة حتمية، إذا أُخذت علاقات بريطانيا الأخرى في عين الاعتبار، وأضاف في تصريحات لصحيفة “نيويورك تايمز”، “بالنسبة إلى بايدن هذه فرصة كبيرة”، ومع ذلك، فإن المراجعة، تمثل “جهداً جاداً للتفكير في المخاطر والفرص”.
حنين للماضي أم استعداد للمستقبل؟
تحاول المملكة المتحدة من خلال استراتيجيتها المعنونة “بريطانيا عالمية لعصر تنافسي” رمي ثقلها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ للاستفادة من الفرض الاقتصادية، وترى أن الوجود الأمني البريطاني في تلك المنطقة يمكن أن يساعد في مواجهة الصعود الصيني، ولهذا تتأهب حاملة الطائرات البريطانية “اتش أم أس كوين إليزابيث” التابعة لسلاح البحرية البريطاني، لإطلاق أولى رحلاتها إلى آسيا في غضون أشهر قليلة.
وأبرمت بريطانيا عدداً من الصفقات التجارية الآسيوية ضمن محاولاتها المستمرة لاستعادة الفرص المفقودة بسبب الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتقدمت في يناير (كانون الثاني)، بطلب للانضمام لاتفاقية التجارة الحرة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث لديها فرصة معقولة للنجاح. وتعد تجارة بريطانيا مع آسيا صغيرة نسبياً، بالمقارنة مع روابطها مع الاتحاد الأوروبي، لكن الفرص ستزداد مع نمو الاقتصادات الآسيوية، ومع تحول التجارة الدولية نحو التجارة في الخدمات والسلع الرقمية، التي تتأثر بشكل أقل بالمسافات الطويلة.
وفيما اعتبر النقاد بأن الاستراتيجية تمثل “فصلاً آخر في بحث بريطانيا المرتبك عن دور ما بعد الإمبريالية”. تقول مجلة “فورين بوليسي”، إن خطة جونسون هي في الواقع استجابة معقولة لعالم تتجه جاذبيته الاقتصادية والجيوسياسية باتجاه الشرق، وهو عالم يرى المملكة المتحدة تأخذ مكانها كواحدة من عدة قوى وسطى في أوروبا تحاول الاستحواذ على نفوذ أكبر هناك. ولذلك تسعى لندن لتصبح “شريك حوار” في رابطة دول جنوب شرقي آسيا التي تضم 10 دول، وعضواً في اجتماع وزراء دفاع المنظومة.
ويظل الجانب الأمني الأكثر إثارة للجدل بالنظر إلى توازن القوى الهش في المنطقة، وفيما ألمح المسؤولون البريطانيون إلى خطط لتأسيس وجود بحري في آسيا، لم تقدم المراجعة أي تفاصيل، عدا الإشارة إلى نشر مزيد من القوات في الخارج لفترات طويلة، وخطط لتحسين المنشآت العسكرية الحالية في كينيا وعمان وسنغافورة.
دور الشرق الأوسط
وأكدت الوثيقة على العلاقات الثنائية التاريخية القوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونوهت بالتطلع إلى تعميق هذه الروابط لتصبح بريطانيا أحد الشركاء التجاريين والاستثماريين الأساسيين في المنطقة، والتأكيد على مواصلة القوات المسلحة المساهمة في دعم التحالف الدولي ضد “داعش” في العراق وسوريا، وبناء الشراكات الأمنية الوثيقة، مع السعودية وإسرائيل، لحماية مصالح المملكة المتحدة في المنطقة بشكل أفضل. وأضافت، “سنقدم عرضاً أمنياً أكثر تكاملاً لحماية مصالحنا، ومعالجة الدوافع الأولية للإرهاب، والعمل مع شركائنا لتعزيز وتحديث قدراتهم الأمنية لضمان الاستقرار الدائم في المنطقة”.
وسيواكب التأكيدات الجديدة، إبحار حاملة الطائرات “أتش أم أس كوين إليزابيث”، وهي إحدى أكبر سفينتين حربيتين بنيتا للبحرية الملكية، صوب البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط ودول المحيطين الهندي والهادئ، لإثبات قدرة بريطانيا على العمل المشترك مع الحلفاء والشركاء، لا سيما الولايات المتحدة، والتأكيد على إبراز القوة العسكرية المتطورة لدعم الناتو والأمن البحري الدولي.
الأمن السيبراني وتحديات الآخر
وتنص الاستراتيجية الجديدة أيضاً على تحديث القوات العسكرية، مع الحفاظ على قدراتها كاملة، وستطور وزارة الدفاع التقنيات الجديدة والناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والعمليات الهجومية عبر الفضاء السيبراني وفق الأولوية. ولم تحدد المراجعة حتى الآن أي تغييرات في هيكل القوة البريطانية وقدراتها، ومن المحتمل أن يتم تضمين أي تحديثات إضافية في “ورقة “قيادة الدفاع” التي من المقرر نشرها في 22 مارس (آذار) 2021.
ونظراً إلى التغير التقني السريع الذي بات يلعب دوراً في تغيير المجتمعات والاقتصادات والشراكات، تطمح الاستراتيجية إلى تحويل بريطانيا إلى قوة رائدة في الفضاء السيبراني عالمياً، ذلك لأهمية الدور الجيوسياسي للمؤسسات غير الحكومية، بما فيها شركات التقنية الكبرى. وتنص الوثيقة على أن “القدرة على تطوير واستغلال العلم والتكنولوجيا في هذه المجالات ستكون مقياساً متزايد الأهمية للقوة العالمية. تهدف المملكة المتحدة إلى أن تصبح قوة عظمى في مجال العلوم والتكنولوجيا بحلول عام 2030”.
وبحسب مجلة “بوليتكيو”، استبق جونسون نشر المراجعة، بالتأكيد على أن القوة السيبرانية الوطنية، التي أنشئت العام الماضي لتحسين قدرة المملكة المتحدة على إجراء عمليات إلكترونية ضد الإرهابيين والدول المعادية والعصابات الإجرامية، ستتمركز في شمال إنجلترا، أي بالقرب من مكتب المخابرات في مانشستر، هذا ومن المقرر أن تنتهي الاستراتيجية الخمسية للأمن السيبراني في نهاية شهر مارس.
ومن جانبه، يذكر كياران مارت، الأستاذ بجامعة أكسفورد، أن المملكة المتحدة قد تواجه مقاومة من الدول غير الغربية للتسجيل في قواعد الأمن السيبراني الدولية، محذراً من أن بريطانيا وحلفاءها الغربيين قد يجدون صعوبة أكبر مما يعتقدون في إقناع الدول غير الغربية على الموافقة على المبادئ المتفق عليها حول الفضاء السيبراني، وذلك لا يشمل الصين فقط، إنما يشمل دولاً في أفريقيا وأميركا اللاتينية بالإضافة إلى الهند وغيرها.
وستنشئ الحكومة البريطانية مركزاً للعمليات مقره في مكتب مجلس الوزراء، يركز على تحسين استخدام البيانات عند الاستجابة للأزمات. وسيجمع مركز عمليات مكافحة الإرهاب بين الشرطة ووكالات المخابرات ونظام العدالة الجنائية، بهدف زيادة المرونة المحلية في المملكة المتحدة.