وصف ناقدون الخطوة بأنها تمثل فتحا للأرشيف مع بقاء عدم إمكانية الوصول إليه، وقال أكاديمي فرنسي إن خطوة الرئيس ماكرون تمثل اعترافا بأن هناك مشكلة في الوصول للأرشيف، وعمليا لن يتغير شيء
لا تزال قضية التاريخ الاستعماري الفرنسي (1830-1962) حاضرة في الذاكرة الثقافية للجزائر، وكذلك في ذاكرة ومشاعر ملايين السكان الفرنسيين الذين تربطهم صلات بالجزائر، ويقول الجزائريون إن الاحتلال الفرنسي لم يخرج خالي الوفاض، بل حمل الجنود الفرنسيون معهم قطعا فنية وكتبا وخرائط تاريخية، وهو تراث وطني ما زال موجودا في الأرشيف الفرنسي حتى اليوم.
وتطالب الجزائر فرنسا باستعادة ذلك التراث، وتقول السلطات الجزائرية إن القوات الاستعمارية أخذت لفرنسا بعد دخولها الجزائر عشرات الآلاف من الوثائق التي تعود إلى الحقبة السابقة على الاحتلال الفرنسي.
ومؤخرا، وبعد ما يقارب 60 عاما من نهاية الحرب خلّف قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفع السرية عن “وثائق مدرجة تحت بند أسرار الدفاع الوطني” -وتخص حقبة استعمار الجزائر (1830-1962)- ردودا تراوحت بين ترحيب رسمي وتوجس غير رسمي من أبعاد ذلك القرار.
وأصدر الإليزيه القرار وفقا لما أوصى به المؤرخ بنجامان ستورا في تقريره الذي سلمه سابقا لماكرون حول استعمار فرنسا للجزائر، لكن تقريرا لصحيفة نيويورك تايمز (New York Times) الأميركية أفاد بأنه تمت بعد ذلك إعادة ختم عشرات الآلاف من الوثائق التي كانت متاحة للعامة، مما أعاق البحث التاريخي وأعاد فرض السرية على المعلومات التي تم الكشف عنها سابقا.
ترحيب مشروط
بعد قرار ماكرون بيوم واحد وصف عبد المجيد شيخي مستشار الرئيس الجزائري لشؤون الذاكرة مدير الأرشيف الحكومي قرار ماكرون بـ”الإيجابي والهام”.
وقال شيخي في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية إنه “بالإمكان القول إنه لحد الساعة قرار ماكرون جيد، والأمر يتعلق بانفتاح إذا أرفق بمتابعة تسمح بتطبيقه بشكل واسع”.
ووفق المسؤول الجزائري، فإن “الاطلاع على الأرشيف سيكون مفتوحا أكثر، خاصة أن الفترة المعنية هي مرحلة مهمة جدا في تاريخ الجزائر، وهي تخص الفترة ما بين سنوات 1920 و1970”.
تكذيب وتوجس
من جانبه، يرى النائب السابق كمال بلعربي في تصريح لوكالة الأناضول أنه “لا يمكن الوثوق في قرار باريس رفع السرية عن جزء من أرشيف الاستعمار الفرنسي بالجزائر”.
وقال بلعربي -وهو صاحب مشروع قانون برلماني سابق لتجريم الاستعمار- إن “بيان الرئاسة الفرنسية حول رفع السرية عن وثائق تخص حقبة الاستعمار في الجزائر وبعض الدول الأخرى لا يعنينا، لأنها لن تسلمها إلى السلطات الجزائرية”.
وأضاف “فرنسا ستظل تتلاعب بملف الذاكرة، والأهم هو أن نظل متمسكين بمطالبنا لمحاسبة فرنسا على جرائمها التي ارتكبتها في الجزائر طوال 132 عاما”.
وتابع “وهل ننتظر من فرنسا التي ارتكبت أبشع المجازر في حق الجزائريين أن تعطينا أرشيفا مهما، إن هذا عمل مضلل أنتجته مخابراتها”.
وقال إن “هذه القرارات كلها تصريحات وهمية وملفات كاذبة لا أقل ولا أكثر، ولن يرجى منها شيء”.
بدوره، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر توفيق بوقاعدة أن هناك “انتقائية في طرح هذه الوثائق ليطلع عليها الجمهور العام، وكلمة بعض أو جزء توحي أن قيمة هذا الأرشيف لا تؤثر على العلاقات بين البلدين لأنه سنويا تفرج فرنسا عن وثائق دون ضجة”.
واعتبر بوقاعدة أن “المسائل العالقة بين فرنسا والجزائر لا ترتبط بهذه الوثائق التي فصل فيها القانون الفرنسي (بأنها ملكية لفرنسا)، وإنما الخلاف يتعلق بوثائق ما قبل الفترة الاستعمارية (1830-1962)”.
وأوضح أن “وثائق ما قبل الاستعمار ليس لفرنسا الحق في امتلاكها، هي موروث إنساني للشعب الجزائري، وهذا ما ترفضه باريس”.
وتطالب الجزائر باستعادة كامل الأرشيف ما قبل الاستعمار الفرنسي، والذي نقلته باريس خلال جلاء قواتها عن البلاد.
وتقول السلطات الجزائرية ومؤرخون إن فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر شهدت انتهاكات بحق الملايين، إلى جانب حملات تهجير ونهب الثروات.
لا جديد
وفي تقرير سابق لموقع ميديا بارت (Mediapart) الفرنسي كتبت رشيدة العزوزي أن جمعيات فرنسية مهتمة بالقضية لم تجد في قرار ماكرون جديدا.
وقالت الجمعيات الثلاث (جمعية المؤرخين المعاصرين للتعليم العالي والبحث، وجمعية أمناء الأرشيف الفرنسيين، وجمعية جوزيت وموريس أودين) -التي حاربت من أجل تسليط الضوء على أولئك الذين اختفوا أثناء الثورة الجزائرية على يد الجيش الفرنسي- إنها لم تجد في قرار الرئيس ما كانت تصارع من أجله.
ومن أجل توضيح هذا الالتباس بشأن فتح الأرشيف مع بقاء عدم إمكانية الوصول إليه طلب الموقع الفرنسي شروحا من توماس فيسيه المحاضر في التاريخ المعاصر بجامعة لوهافر والأمين العام لجمعية المؤرخين المعاصرين للتعليم العالي والبحث، وسأله: كيف لا يكون الإعلان الرئاسي “فتحا” للأرشيف؟
فرد المؤرخ بأن اعتراف ماكرون بأن هناك مشكلة في الوصول إلى الأرشيف هو العنصر الوحيد المرضي في الموضوع، وأن الرئيس يدرك التناقض بين دعوته المؤرخين للعمل على حرب الجزائر وعدم إمكانية القيام بذلك عمليا، أما ما سيتغير بشكل ملموس بالنسبة للباحثين والطلاب فلا شيء تقريبا.
وأشار المؤرخ إلى ضرورة التمييز بين مصلحة تاريخ الدفاع التي تحتفظ بأرشيف وزارة القوات المسلحة وبين الأرشيف الوطني، حيث إن مصلحة تاريخ الدفاع أصبحت منذ أشهر ترفع السرية عن صندوق من الوثائق كل مرة بدلا من رفعها عن ورقة واحدة، وما سيتغير هو التاريخ الذي سيتم رفع السرية عنه، حيث ستكون السنة 1970 بدل 1954.
أما بالنسبة للأرشيف الوطني -كما يقول فيسيه- فلن يتغير شيء أيضا، إذ لا بد من الرجوع إلى الإدارات التي يعود لها الأرشيف لمطالبتها برفع السرية عنه، وبيان ماكرون لا يغير شيئا في القضية، وبالتالي فإن من سيذهبون اليوم أو غدا إلى الأرشيف الوطني سيصابون بخيبة أمل.
تناقض والتباس
ومن المهم -حسب أستاذ التاريخ- أن يفهم الناس أن إعلان الرئيس لا يغير شيئا في جوهر المشكلة، ولكنه على العكس يؤكد الحاجة إلى رفع السرية عن المحفوظات العامة التي يحق بموجب القانون إطلاع المواطن عليها، لأن حجبها انتهاك لقانون التراث.
أما من يمنع رفع السرية فهو -حسب المؤرخ- رغبة الأمانة العامة للدفاع والأمن القومي -وهي جهاز تابع لرئيس الوزراء ومسؤولة عن مساعدته في مسؤولياته بشؤون الدفاع والأمن القومي- في تطبيق الأمر رقم 1300 المشترك بين الوزارات، رغم أن نصه يشير إلى وجوب رفع السرية عن الوثائق بعد مرور 50 عاما، مما يشير إلى وجود تعارض مع القانون.
ونبه المؤرخ إلى أن قانون المحفوظات لعام 2008 -الذي تم تمريره في ظل رئاسة نيكولا ساركوزي- يحمي المعلومات الحساسة بشكل خاص لأمن الدولة بشأن كل ما يتعلق بتصميم أو تصنيع أو استخدام أو تحديد مكان أسلحة نووية أو بيولوجية أو كيميائية، وكذلك بالنسبة للمستندات التي تحدد وكلاء الخدمة الخاصة، والحد الزمني هو 100 عام.
ومع أن الرئيس الفرنسي أعلن عن تشريع قادم لتسهيل عمل الباحثين فإن المقلق -حسب المؤرخ- هو أننا لا نعرف طبيعة التغييرات التي سيتم إجراؤها، وإن كان الرئيس بذلك يعترف ضمنيا بعدم شرعية تطبيق رفع السرية الإداري عن المستندات التي يحق للمواطن الاطلاع عليها قانونيا.
المصدر : الجزيرة + الأناضول + الصحافة الفرنسية + ميديابارت + نيويورك تايمز