رهان لندن على تعزيز التحالف مع واشنطن قد يكون محفوفاً بالمخاطر
طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
طالما جادل رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وحلفاؤه بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحررها لتعمل كقوة مرنة على المسرح العالمي في إطار مفهوم أطلقوا عليه اسم “بريطانيا العالمية”، وخلال هذا الأسبوع حانت لحظة الكشف عن هذه الرؤية المستقبلية، فقدم جونسون وثيقة من 100 صفحة، يقول إن أحد أهدافها مساعدة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على مواجهة التحديات من روسيا والصين، فضلاً عن بلورة سياسة لندن الخارجية لعشر سنوات مقبلة. فهل يحاول جونسون استعادة أمجاد الماضي الإمبراطوري لبريطانيا؟ أم يسعى لإيجاد موطئ قدم مستقبلي لبلاده في عالم يتغير بسرعة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتعاطى إدارة بايدن بإيجابية مع هذه الرؤية؟
نقطة تحوّل
في عام 1968 نشر حزب العمال البريطاني كتاباً أبيض بعنوان “شرق السويس”، مثل نقطة تحول وخطوة رئيسة في تفكيك دور بريطانيا الإمبريالية، وقد تكون وثيقة “بريطانيا العالمية في عصر تنافسي” التي قدمها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أمام البرلمان حول السياسة الخارجية والدفاعية المستقبلية لبلاده، نقطة تحول أخرى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن لا أحد يستطيع الجزم عما إذا كان فحوى هذه الرؤية مفيداً أم ضاراً لبريطانيا. فعلى الرغم من كون الوثيقة قيمة ومفيدة للقوات المسلحة البريطانية والصناعات العسكرية، فإنها لا تكشف عن استراتيجية واضحة المعالم والأهداف، كما جلبت انتقادات واعتراضات من المعارضة وعدد من المتخصصين.
وما يثير اللغط حول الوثيقة أن بريطانيا ترغب في تعزيز تحالفها بشكل أوثق مع الولايات المتحدة في عالم محفوف بالمخاطر، فبحسب قول جونسون، ستكون الولايات المتحدة أكبر حليف لبريطانيا وشريكاً وثيقاً في مجالات الدفاع والاستخبارات والأمن، من أجل الدفاع عن القيم والمصالح المشتركة، وهو ما يعتبر دبلوماسيون بريطانيون أن اللجوء إلى أميركا أمر حيوي وبنيوي، ويمثل بالنسبة للرئيس الأميركي جو بايدن فرصة كبيرة.
غير أن الوثيقة التي تمت صياغتها في أجواء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، احتوت على عناصر مقلقة قد تثير خلافات وتوترات مع إدارة بايدن مثل زيادة عدد الرؤوس النووية البريطانية من 180 إلى 260 رأساً نووياً.
خيبة أمل أميركية
ويبدو أن انتقال الولايات المتحدة الأميركية من حكم ترمب إلى بايدن، بدا محفوفاً بالمخاطر بالنسبة لبريطانيا، فعلى نقيض ترمب الذي رحب بعقد صفقة أميركية تجارية مع بريطانيا كمكافأة على خروجها من الاتحاد الأوروبي، عارض بايدن انسحابها من الاتحاد، ولم يُبدِ اهتماماً كبيراً بالسعي إلى عقد اتفاقية تجارية مع لندن.
ومن المرجح أن يؤدي عدم ارتباط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي إلى خيبة أمل البعض في إدارة بايدن، الذين يحاولون إحياء التعاون الدولي بعد النهج الأحادي الذي اتبعته إدارة ترمب، كما أن قرار بريطانيا توسيع ترسانتها النووية قد يكون جيداً مع ترمب، ولكنه قد يزعج المسؤولين في إدارة بايدن الذين يريدون الإشارة إلى انفتاحهم على مزيد من التقدم في نزع السلاح النووي، فضلاً عن أن ذلك لا يتناسب مع دور بريطانيا والغرب في محاولة منع الانتشار النووي الإيراني، كما أن واشنطن قد لا ترى الأسلحة النووية رادعاً، بينما تتحدث بشكل روتيني متواصل مثل لندن عن خطر التهديدات الإلكترونية السيبرانية أو غيرها من التهديدات التكنولوجية.
استمالة بايدن
ولعل هذه الأسباب هي ما دفعت جونسون إلى العمل بجد لاستمالة بايدن وجذب انتباهه لمساعي بريطانيا ودورها العالمي الجديد كحليف وثيق للولايات المتحدة، ذلك أن زيادة الإنفاق العسكري البريطاني تتوافق مع أولويات الرئيس الأميركي الجديد الذي يسعى إلى تعزيز حلف الشمال الأطلسي (الناتو) والتعاون الأمني على ضفتي الأطلسي.
كما أن إعلان جونسون عن سياسات حول تغير المناخ، تتماشى مع استضافة بريطانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، قمة الأمم المتحدة للمناخ في مدينة غلاسكو الاسكتلندية، والتي من المتوقع أن تمنح الرئيس بايدن فرصة لتجديد الالتزام الأميركي باتفاق باريس للمناخ الذي انسحب منه ترمب.
أهداف مشتركة
علاوة على ذلك، كان تأكيد جونسون على الحاجة إلى الاستعداد لعالم من التهديدات والأعداء نقطة مهمة في هذا السياق، فقد حدد العناصر التي توضح دور بريطانيا المستقبلي مثل الحرب الإلكترونية عبر الإنترنت والردع النووي والضغط على الصين وروسيا وغيرهما.
ووصفت الوثيقة البريطانية الصين بأنها منافس منهجي، وهي لغة لا تختلف عن تلك المستخدمة من قبل المسؤولين الأميركيين، وتعتبر أن روسيا لا تزال تشكل تهديداً بعد ثلاث سنوات من تسميمها أشخاصاً كثيرين بغاز أعصاب مميت في سالزبوري بإنجلترا.
وخلال الأشهر الأخيرة، تدهورت علاقات بريطانيا مع الصين منذ أن فرض جونسون قيوداً على إطلاق شركة “هواوي” الصينية العملاقة للاتصالات، خدمة الجيل الخامس من شبكات الاتصالات جي 5 في بريطانيا، وفرضت الصين قانوناً أمنياً شديد القسوة على هونغ كونغ، المستعمرة البريطانية السابقة، ما جعل بريطانيا تعرض استضافة أكثر من 300 ألف من المقيمين في هونغ كونغ ويحملون جوازات سفر بريطانية في الخارج.
مصداقية بريطانيا
ومع ذلك، فإن المنتقدين يعتبرون أن الغرض من وثيقة “بريطانيا العالمية”، هو تقديم فكرة متماسكة جديدة حول سياسات بريطانيا الخارجية والدفاعية في أعقاب خروجها الذاتي من الاتحاد الأوروبي. فمنذ عام 1945 كانت بريطانيا تعتبر نفسها الصخرة الأوروبية التي يرتكز عليها التحالف الأوروبي عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة، لكن خروجها من الاتحاد دمر مصداقيتها في أوروبا، ولهذا لجأت الحكومة إلى فكرة “بريطانيا العالمية”، التي تمثل بالنسبة لبعض المراقبين عبارة ساطعة لما بعد الإمبراطورية، ولكنها تفتقر إلى المحتوى الذي حاولت إقناع الناس به.
وعلى الرغم من خروجها من الاتحاد، تظل بريطانيا دولة أوروبية، حيث تجارتها وثقافتها وأمنها وازدهارها ترتبط دائماً بالقارة العجوز، بحسب رأي كثيرين، بينما كان الغرض الأساسي من الوثيقة هو تبرير إدارة ظهر بريطانيا للقارة الأوروبية مع الإبقاء على الالتزام الأمني، لأسباب تتعلق بشكل كبير بحلف الناتو فقط.
ماضٍ إمبراطوري
ويرى بعض النقاد أن مبادرة جونسون بدت بالغة الضخامة بالنسبة لبلد أصبح الآن قوة متوسطة الحجم أمام سواحل أوروبا، فهو يتحدث على سبيل المثال عن نشر حاملة طائرات بريطانية في آسيا، ما يذكر بالماضي الإمبراطوري لبريطانيا، وهو ما يشير إليه أيضاً تأكيد الحكومة إعادة البحث عن موطئ قدم لبريطانيا في المحيطين الهندي والهادي، لكن جونسون يصر على أن “بريطانيا العالمية” لا تعبر عن التزامات بريطانيا القديمة، وليست بادرة مغرورة، كما ليست حنيناً إلى الماضي، ولكنها ضرورة لسلامة وازدهار شعبه في العقود المقبلة.
كما يؤكد مساعدو رئيس الوزراء البريطاني أن استراتيجية لندن للوجود في المحيطين الهندي والهادي هي مجرد ميول وليست تحولاً استراتيجياً مثلما فعلت الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس باراك أوباما، والذي قال بعض المحللين إنه لم يرقَ أبداً إلى مستوى الجدية.
ميول آسيوية
وفي غياب أوروبا نسبياً داخل هذه الوثيقة، حضرت آسيا فجأة، واستحوذت على كثير من الاهتمام لتصحيح اختلال التوازن الذاتي مع أوروبا. ومع ذلك، فإن الميل تجاه آسيا لا يرقى إلى مستوى استراتيجية كبرى، لأن كل ما تفعله بريطانيا الآن هو محاولة الحصول على بعض الصفقات التجارية والاقتصادية، التي قد لا تحل أبداً محل التجارة المفقودة مع أوروبا.
ومن الواضح أن جونسون بدأ يشكل ملامح خطته بالتقارب مع آسيا منذ أشهر، فقد دعا قادة أستراليا والهند وكوريا الجنوبية لحضور اجتماع قمة مجموعة الدول السبع التي تستضيفها بريطانيا في يونيو (حزيران) المقبل، كما يعتزم السفر إلى الهند الشهر المقبل في أول رحلة خارجية له منذ انتشار وباء كورونا، ويريد كذلك الانضمام إلى الاتفاقية التجارية الشاملة للشراكة عبر المحيط الهادي، والتي تخلت عنها الولايات المتحدة، بعد أن تولى الرئيس السابق دونالد ترمب منصبه.
وفي حين أن بريطانيا تحاول عبر هذه الوثيقة تأصيل فكرة تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة بتعزيز وجودها العسكري في شرق آسيا، فإن النقاد يرون أن بريطانيا ليست في الواقع على وشك أن تصبح قوة عسكرية كبرى في المحيط الهادي، كما أن الصين لن تغير أساليبها لأن جونسون أرسل حاملة الطائرات البريطانية الجديدة “الملكة إليزابيث” إلى بحر الصين الجنوبي، متظاهراً بأنه منخرط في دبلوماسية السفن الحربية في القرن الـ21، أو في تعزيز القوة البحرية الأميركية لإرسال رسالة رادعة إلى الصين.
أزمة النووي
وفي حين تسلط الوثيقة الضوء على التهديدات الأمنية التي تشكلها روسيا والصين، فإنها تنهي ثلاثة عقود من نزع السلاح النووي التدريجي عبر رفع سقف مخزون بريطانيا من الأسلحة النووية من 180 إلى 260، كنوع من التأمين ضد تهديدات الدول المعادية، بحسب قول دومينيك راب، وزير خارجية بريطانيا.
وما يثير الانتقادات هنا أن نشر مزيد من الرؤوس النووية الصينية أو الروسية الأفضل، لا تحدث أي فرق في الاحتياجات النووية لبريطانيا التي تبقي على غواصاتها النووية في البحر طوال الوقت، في ممارسة تعرف باسم “الرادع المستمر” في البحر، عبر إخفاء الأسلحة النووية في المحيط، وليس على الأرض، وبالتالي لا تكون معرضة للاستهداف من الأعداء بغض النظر عن عدد هذه الأسلحة أو تعقيدها.
ومهما كان السبب الحقيقي، فإن توقيت اتخاذ هذا القرار النووي هو الأسوأ من وجهة نظر كثيرين، فقد أثارت الخطوة حيرة بين معظم المتخصصين النوويين، ومن غير المرجح أن تفعل الكثير لتعزيز الردع، بينما تلحق ضرراً دبلوماسياً حقيقياً.
وما يثير القلق أن الثقة في اتفاقية منع الانتشار النووي قد تتلاشى، ما يضعف جهود منع الانتشار، وبعدما كانت بريطانيا رائدة في نزع السلاح النووي، فإن قرارها بتغيير المسار بعد عقود من التخفيضات المطردة هو علامة سيئة.