“قومية” العولمة و”عولمة” القومية


التحدي الأكبر أمام العالم المحكوم دائماً بالصراع والتنافس والتعاون إدارة هذه المعادلة الصعبة

رفيق خوري كاتب مقالات رأي 

جائحة كورونا كشفت نقاط الضعف والهشاشة في العولمة كما في الدولة الوطنية، لكن البشرية لا تزال تراوح مثل رقاص الساعة بين العولمة والقومية، ففي ظل العولمة، كبرت توجهات العودة إلى القبلية والهويات الإثنية والثقافية، كما إلى الدولة الوطنية، وبعد سقوط الإمبراطوريات الكبرى، تصاعدت الأوهام لدى قوى إقليمية متوسطة مثل إيران وتركيا في إقامة إمبراطوريات تتحكم بها قومية تحت شعارات دينية، وفي ظل القومية، صارت السلطوية والشعبوية اليمينية “موضة” دارجة حتى في أوروبا.

أما أكبر ضربة للعولمة، فإنها جاءت على يد القوة العظمى التي كانت تدير العولمة، وهي بالطبع أميركا، إذ مارس الرئيس دونالد ترمب سياسة “أميركا أولاً” التي قادت إلى “أميركا وحيدة” على حدّ تعبير الرئيس جو بايدن، وإلى تشجيع الدول الأوروبية على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

وأما أقوى هجوم على القومية، فإنه من الأولويات لدى إدارة بايدن في الخروج على سياسة ترمب، ويقول وزير الخارجية أنتوني بلينكن، “المشكلة المركزية هي أن العالم يتطلب عملاً جماعياً أكثر لا أقل، لكنّ القومية المتصاعدة تجعل التعاون الدولي الذي نحتاج إليه أصعب من أي وقت مضى”.

ومثل هذا ما جاء في تقرير نادي “فالداي” الروسي للحوار بعد مؤتمر تحت عنوان، “طوباوية العالم متعدد الأوجه: كيف يستمر التاريخ؟”، إذ رأى في تصور حال العالم عام 2045 أن “ما يتم انتهاكه اليوم هو سلامة العالم وتكامله، فالتنقل صار شبه معدوم، وراء الحديث عن العمل المشترك، ازدهرت الأنانية القومية، وتفتّت العالم أخذ طابعاً حاداً، وصار النظام العالمي الحالي بداية لنظام آخر”.

وليس أمراً عادياً أن يصف أينشتاين القومية بأنها “حصبة الجنس البشري”، ولا من دون سبب مهم قال شتيفان تسفايغ، “القومية سمّمت زهرة ثقافتنا الأوروبية، وهي المرض الرابع بعد الفاشية والنازية والشيوعية”، لكنّ الأوروبيين تعلموا الدرس من تكرار الحروب والكوارث خلال قرنين من الصراعات، فصالحوا التاريخ وبنوا الاتحاد الأوروبي على مراحل، وحصلوا حتى الآن على 75 عاماً من السلام بعد الحرب العالمية الثانية. والسؤال هو: لماذا، بعد كل ذلك، صارت القومية في أوروبا، وبالذات في المجر وبولندا “أيديولوجيا خطيرة”، يصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنها “خيانة للوطنية”؟ وكيف نواجه نحن في الشرق الأوسط خطر التنظيمات الأصولية المتشددة التي خرجت من عباءة الإخوان المسلمين وتريد الشدّ إلى الوراء وتجميد التاريخ عند مرحلة محددة، وسط الحاجة إلى التقدم في عصر المتغيرات؟

المؤرخ الأميركي آرثر شلسنجر يتحدث عن مرحلتين من القومية في أوروبا، الأولى “كانت للخير إذ منعت نابوليون ثم هتلر من توحيد أوروبا بالقوة”، والثانية تضع العراقيل أمام “توحيدها بالمصالح والفوائد المشتركة”، لكن الواقع أن القومية يمكن أن تقود إلى نوع من “عولمة القومية”.

ففي ثلاثينيات القرن الـ20، قام تحالف بين ألمانيا واليابان وإسبانيا وإيطاليا ضد الأممية الشيوعية، كما ظهرت أممية أحزاب اشتراكية ضد الأممية الشيوعية، واليوم، يتصاعد مدّ الشعبوية اليمينية وتلتقي تياراته في أكثر من بلد على أهداف مشتركة متأثرة بنظريات المنظّر الروسي ألكسندر دوغين الملقب بـ”راسبوتين بوتين”، النازيون الجدد في ألمانيا من “الحزب الديمقراطي الوطني” وحزب “البديل من أجل ألمانيا” يتدربون في بطرسبرغ على يد “الحركة الإمبراطورية الروسية”، وهناك من يعتقد مثل المؤرخ الأميركي جون لوكاس أن “القومية، لا الشيوعية، كانت القوة الرئيسة في القرن الـ20، ولا تزال كذلك في القرن الـ21″، لا بل إن فينتان أوتول يقول في كتاب “سياسة الألم: بريطانيا بعد الحرب وصعود الوطنية”، إن “الدولة الأمة تشبه مظلة تحميك من المطر القوي للعولمة النيوليبرالية”، ونحن في الشرق نرى، على العكس، في القومية والدولة الوطنية المدنية علاجاً لصراع الهويات والعصبيات الإثنية والطائفية والمذهبية والقبلية.

كان من الصعب أن ينهار الاتحاد السوفياتي، مهما اشتد حراك الأطراف، لو لم تقرر روسيا بقيادة يلتسين “الاستقلال”، وهي القوة المهيمنة، ولولا “أميركا أولاً” لما كبرت في العالم موجة الاعتراض على العولمة، وكانت فرصة لأن تلعب الصين دور “بطل” العولمة عبر مشروع “حزام وطريق”.

ومن التحديات أمام إدارة بايدن في “العودة إلى العالم”، وتعزيز التحالفات والمؤسسات الدولية بعدما ضربها ترمب، غياب “سردية وطنية عامة” وسط الانقسام الحاد وبروز سردية للولايات الحمر وأخرى للولايات الزرق وتنامي نظرية المؤامرة.

والتحدي الأكبر أمام العالم المحكوم دائماً بالصراع والتنافس والتعاون هو إدارة هذه المعادلة الصعبة.