كيف سيكون أثر الجائحة في السينما ورؤيتها إلى العالم؟

المخرجون وكتّاب السيناريو لن يستطيعوا التغاضي طويلاً عن مرحلة من حياة البشر ملؤها الخوف والعزلة

هوفيك حبشيان

مَن تابع الدورة الحادية والسبعين لمهرجان برلين السينمائي، لا بد أنه لاحظ تأثير الجائحة في عدد من الأفلام المعروضة. تحدثنا كثيراً منذ عام إلى اليوم عن سطوة الكورونا على مستوى العروض السينمائية، وعن كيف حوّل هذا الوباء الحياة الثقافية والفنية والسينمائية إلى صحراء قاحلة، لكن لم نتطرق كثيراً إلى السؤال الذي يشغل بعض المهتمين بالشأن السينمائي: هل سيطال التغيير الذي سيأتي به الوباء، مضمون الأفلام ومحتواها؟ يُقال إن مجالات كثيرة ستختفي، مهن ستنقرض، وأن الحياة بعد كورونا لن تكون كما عرفناها قبله، وأغلب الظن أنه ستترتب أيضاً تغييرات كبيرة على ما نشاهده في الأفلام التي لن تستطيع التغاضي طويلاً عن مرحلة من حياة البشر تمتاز بالخوف والعزلة والقلق. الجلوس بين أربعة جدران طوال عام وأكثر، لن يعبر بلا أن يكون له صدى في الأفلام التي ستُنجز مستقبلاً، حتى تلك التي لن تتناول الجائحة مباشرةً. نعلم جيداً أن الشاشة لا تترك شيئاً يمر من دون أن يكون لها رأيٌ فيه، فما بالك بلحظة كونية حصدت ضحايا وصنعت تراجيديات من شرق الكرة الأرضية إلى غربها، ولديها جانب غامض يستوفي كلّ شروط التشويق الهوليوودي. ثم، من الواضح أن السينمائيين انتبهوا لكثرة المشاكل الاجتماعية التي من حولهم بعد جلوسهم الهادئ والمديد في بيوتهم، وها إنها بدأت تظهر في بعض المهرجانات الحديثة منها برلين.   

الحديث المؤجل

مدير مهرجان برلين كارلو شاتريان تحدّث في تصريح إلى مجلة “ذا هوليوود ريبورتر” عن العلاقة بين الجائحة والأفلام المعروضة، قائلاً: “لم نختر أي عمل وثائقي أو روائي يتطرق إلى الجائحة، مع أن عدداً منها أُرسل إلينا. وجدنا أنه من المبكر الحديث عمّا يجري. لكن، أعتقد أن الأفلام التي اخترناها تتطرق إلى الجائحة على نحو مثير أكثر: مع إحساس بالشك. فلاحظتُ مثلاً أن في العديد من الأفلام التي تم تصويرها خلال الوباء حرص المخرج على ألّا تبقى الشخصية وحدها بل دائماً محوطة بأشخاص”. 

أفلام عدة اذاً عُرضت في برلين حملت همّ الجائحة في داخلها، حتى إننا رأينا شخصياتها وهي ترتدي الكمامات على وجوهها، وأبرز مثال هو الفيلم الفائز بـ”الدبّ الذهبي”. فرض الوباء نفسه بشكل مفاجئ، من دون سابق تخطيط، سواء موضَعَه السينمائيون في أفلامهم بشكل واع، أو تشرّبوه من شدة العيش في هذا الزمن المتوتر، فظهرت هذه النزعة في الطيات والتقطها النقّاد بحسهم التحليلي المعروف. حتى إنه يمكن الزعم أن أحد هذه الأفلام تنبأ بالوباء أو على الأقل فيه ما يكفي للقول إنه استشف قدوم زمن كورونا. إنه “صحّة اجتماعية” للمخرج الكندي المغاير دوني كوتيه الذي شارك في قسم “لقاءات” وفاز بجائزة أفضل مخرج. بأسلوبه السينمائي المتفرد، يضع كوتيه كاميراه أمام بطله الرئيسي أنتونان مصوّراً لقائاته المتكررة مع النساء اللواتي تمتلئ بهنّ حياته البائسة والفارغة من أي معنى على ما يتبدى جلياً من مظهره وكلامه.

3.jpg

من فيلم “محطة المنطقة” (الخدمة الإعلامية للمهرجان)

لا يفعل سوى الوقوف في حقول عشبية جميلة ليعلن معارضته لهذا الشيء وذاك. اللقاء الأول هو مع شقيقته التي تريده أن يحصل على وظيفة، في حين الثاني مع زوجته التي تقترح عليه إنقاذ زواجهما، أما اللقاء الثالث (مع عشيقته)، فهو مناسبة ليروي لها طموحه في إنجاز فيلم. سيدة رابعة تنضم إلى هذه الجوقة، وهي مفتشّة في مجال الضرائب. أنتونان لا يملك شيئاً، رجل عاطل من العمل، يفضّل النوم في سيارة أحد أصدقائه، فيخطر في باله امتهان السرقة. بداية، يفاجئ الفيلم بعنوانه (“صحّة اجتماعية”)، الذي يذكّر بمصطلح تباعد اجتماعي الذي انتشر مع تفشّي الوباء.

الهجرة إلى البيوت

يقول المخرج إنه كان اختار هذا العنوان سنوات قبل الكورونا ولكن مع تفشيّه، صار يعني شيئاً آخر. بيد أن توارد الأفكار لا يقف عند هذا الحد، فما سنراه في هذا الفيلم هو حرفياً تجسيد لحياتنا منذ فترة: الشخصيات في الكادر تقف على مسافة بعضها من بعض، مسافة مترين أو أكثر، ولا يوجد حولها أي إنسان. وكأننا في زمن هاجر فيه الناس إلى بيوتهم، علماً أن لا اشارة إلى الزمن الذي تجري فيه أحداث الفيلم، بل يتركنا مع انطباع أنه يجري خارج الزمن. عن التطابق بين ما نعيشه خلال كورونا وما نراه على الشاشة، قال المخرج دوني كوتيه في مقابلة: “أعلم أنني سأضطر للإجابة عن سؤال حول إذا كان فيلماً وبائياً. هل يوجد شيء اسمه فيلم وبائي؟ إنني أصارع فكرة أنه على الرغم من أني كتبته قبل خمس سنوات وسمّيته بالفعل “صحّة اجتماعية”، وكان من المفترض تصويره في مناظر طبيعية عملاقة مع ممثّلين يبتعد أحدهم عن الآخر خمسة أمتار، فجأةً بعد خمس سنوات، تناسب هذا كله تماماً مع شروط التصوير في الجائحة وقواعده. لم أكن أخطط لكتابة فيلم روائي، لكن وجدتُ نفسي في حالة سكر وأنا أطالع أعمال المؤلف السويسري روبرت فالسر، الذي كان كاتباً متهوراً، كانت لديه طريقة ساخرة للغاية للنظر إلى الأشياء. كنت في حالة تماه مع أسلوبه، لا بل بدأتُ أتحدّث مثله في رأسي”. أما عن القيود المفروضة في تصوير الأفلام حالياً في ظلّ الوباء، فقال كوتيه إنه يتخيّل معظم أفلامه في إطار من القيود. يحتاج إلى قواعد عندما ينجز فيلماً وهي تساعده حقاً في اتباع هذه الإرشادات”. 

2.jpg

من فيلم “دروس لغة” (الخدمة الإعلامية للمهرجان) 

“دروس لغة” للأميركية ناتالي موراليس المعروض في قسم “برليناله سبيسيال”، هو فيلم آخر يعكس حال الزمن الذي نعيشه إذا دققنا في تفاصيله جيداً وقرأنا بين السطور. الحكاية عن الأربعيني آدم الذي يجد نفسه مضطراً إلى تعلّم اللغة الإسبانية بشكل أسبوعي، إلا أنه لا يعرف كيف سيجد الوقت لكي ينفذ هذه المهمة الطارئة، لأن حياته منظمة جداً في أدق تفاصيلها. مع ذلك، عندما تقلب مأساة غير متوقعة حياته رأساً على عقب، يقرر الاستمرار في متابعة الدروس، لا بل يطوّر رابطاً عاطفياً معقّداً مع كارينيو، مدرّسة اللغة الإسبانية. الفيلم يسأل: هل تعرف حقاً شخصاً معيناً لمجرد أنك مررت في لحظة مؤلمة وإياه؟ شريط موراليس يعيد النظر في التيمة الكلاسيكية للصداقة غير المتوقعة التي تنشأ بين رجل وامرأة. تستخدم موراليس ببعض المكر فورما الفيلم غير المعتاد لتصوير هذه العلاقة الناشئة من زوايا مختلفة، بالمعنى الحرفي والمجازي. “دروس لغة” فيلم حلو ومر، صادق ومضحك… باختصار، استكشاف للحبّ الأفلاطوني.

الحقبة الكوفيدية

لكن، في النهاية، ليس هذا ما يجعل الفيلم ابن الحقبة الكوفيدية ويحمل روحية الزمن الذي نعيشه، مع كلّ ما يترتب عليه من مخاوف في أن تصبح علاقتنا بالبشر إلكترونية فحسب. فالسبب الحقيقي الذي يدفعنا إلى ضم الفيلم إلى قائمة الأفلام الكوفيدية هو أن أحداثه تجري عبر تطبيق “زوم”، وسيط التواصل المستخدم خلال الجائحة، الأمر الذي فتح آفاقاً سينمائية جديدة. والتشابه مع واقعنا لا ينتهي عند هذا الحد، بل أسند الفيلم البطولة إلى شخص (المدرّسة) يعمل من منزله. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار الفيلم برمته رد اعتبار إلى هؤلاء الذين لم يبقَ من رابط لهم مع الحياة سوى الشاشة. عندما خطر في بال موراليس إنجاز الفيلم، كان يساورها الكثير من الشكوك، ولم تكن متأكدة من أن فكرتها مفيدة. تقول: “لم نكن نعلم كيف سنصوّره، وإذا كان الفيلم سيكون جيداً، أو إذا كان الناس سيموتون من الضجر وهم يشاهدونه (…). تعبنا من “الزوم” في الفترة الأخيرة، ولكن اعتدنا عليها كلغة نفهمها”. الممثّل مارك دوبلاس، شريكها في تأليف الفيلم استوحى السيناريو من دروس الإسبانية التي أخذها خلال الإغلاق العام. يقول دوبلاس: “لقد طوّرنا رابطاً من خلال الشاشة. وأعتقد أن هذه طريقة تصوير لإنجاز فيلم في زمن القيود التي يفرضها الإغلاق العام”. 

الفيلم الثالث والأخير الذي يمكن ربطه بطريقة أو أخرى بالحاضر الكوفيدي هو “محطة المنطقة” للمخرجين الإيرانيين برديا ياديغاري وإحسان ميرهودريني. تجري أحداث الفيلم في طهران في مستقبل قريب. حيث أدى التلوث والفيروس القاتل إلى تحويل المدينة إلى مكب نفايات وأجبرا السكّان على الهجرة أو العيش في الحجر الصحي. بيمان هو شاعر ومدمن يعيش مع والدته في حي تم وضعه تحت المراقبة على مدار الساعة من قبل ضبّاط الحجر الصحي. يكافح بيمان من أجل البقاء، ويوزع أيامه بين قضاء بعض الوقت مع ابنته المراهقة والمحادثات مع أقرب أصدقائه، وعلاقة بفتاة وقع في حبها. لكن، تنتشر إشاعات حول حرب وشيكة فيغادر أصدقاء بيمان واحداً تلو الآخر، تاركينه وحيداً تعذّبه الأشباح. في أي عالم يعيش بيمان، الحقيقي أم الخيالي؟ في أي منهما سيجد الفداء؟ “محطة المنطقة” لا يشبه أياً من الأفلام الأخرى التي عُرضت في برلين هذا العام. نظرته إلى المستقبل ورؤيويته يلفتان الانتباه. نحن حيال نصّ سياسي يتأمل في الحاضر ويحذّرنا من المستقبل.