يؤكد أطباء أن العقاقير القائمة على الجينات يمكن أن توفر أدوية تكافح الملاريا والإيدز والسرطان
طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
على الرغم من المآسي التي سببها وباء كورونا للعالم، إلا أن نخبة من العلماء والباحثين الأميركيين اعتبروا أن هناك “جوانب مشرقة” نتجت من الجائحة في ثلاثة مجالات مختلفة، من شأنها أن تسرّع علاج أمراض مستعصية مثل السرطان والإيدز والملاريا، التي دخلت بالفعل في تجارب سريرية متقدمة على البشر من طريق اللقاحات القائمة على الجينات أو الشفرات الوراثية التي استُخدمت في لقاحي “فايزر” و”موديرنا”.
كما وسّع كورونا استخدام الساعات الذكية والتقنيات التي يمكن ارتداؤها، مما سيسهل القدرة على رصد واكتشاف الأوبئة والأمراض، وأخيراً أسهم الوباء في تطوير تقنيات لرسم خرائط العلاقة بين البروتينات البشرية والأمراض، بما يحسّن من التوصل إلى أدوية فعّالة، مثل السرطان والاضطرابات النفسية والأمراض التنفسية المُعدية مثل الفيروسات المتحورة عن كورونا. فما هي دقائق هذه الإنجازات والتقنيات المتطورة؟ ولماذا تأخرت فترة طويلة؟
استجابات مناعية أكثر فعالية
بدأت التجارب الأولى للقاحات القائمة على الجينات قبل 30 عاماً حينما حقن الباحثون الفئران للمرة الأولى بجينات من الفيروسات المسببة للأمراض بهدف إنتاج استجابة مناعية، غير أن هذه التجربة كانت مثل عدد من الاكتشافات الجديدة، تتقلب بين النجاح والفشل.
كان من الصعب تخزين اللقاحات الأولى القائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال المعروف باسم (إم آر إن إيه)، ولهذا لم تكن مستقرة، ولم تنتج النوع المناسب من المناعة، كما أن اللقاحات القائمة على الحمض النووي (دي إن إيه)، وإن كانت أكثر استقراراً، فإنها لم تكن فعّالة في الوصول إلى نواة الخلية، ولذلك فشلت في إنتاج مناعة كافية.
ومع مرور الوقت، تغلب الباحثون والعلماء ببطء على مشكلات الاستقرار، وأدخلوا التعليمات الوراثية حيثما احتاجوا ذلك داخل الخلايا البشرية لتحفيزها على إنتاج بروتين مطابق لبروتين الفيروس أو البكتيريا، مما جعلها تحفز على إنتاج استجابات مناعية أكثر فعالية تهاجم بروتين الفيروس حال قيامه بغزو الجسم.
فضائل كورونا
لكن خلال العام 2019 الذي ظهر فيه فيروس كورونا، وبدأ يضرب ضربته حول العالم، كان لدى المختبرات الجامعية والمعامل الأكاديمية وشركات التكنولوجيا الحيوية عشرات من تجارب إنتاج لقاحات الحمض النووي الريبوزي و”دي إن إيه” المبشرة بكثير من النتائج الواعدة ضد الأمراض المُعدية، لكنها لم تكن مكتملة تماماً آنذاك.
ومع انتشار الوباء، سرّعت الشركات والمختبرات وتيرة الأبحاث على فيروس كورونا حتى جرى اعتماد اللقاحات، وفاقت فعالية عقاقير الحمض النووي الريبوزي بشكل خاص توقعات مسؤولي الصحة بوصولها إلى أكثر من 94 في المئة كما حدث مع لقاحي “فايزر – بيونتيك” و”موديرنا”.
ولم تقتصر هذه التقنية على الأمراض المعدية، بل امتدت إلى نظيرتها غير المعدية مثل السرطان، ووصلت إلى المرحلة الأولى أو الثانية من التجارب السريرية على البشر، بما يبشّر حال اكتمال نجاحها في المرحلة الثالثة بهزيمة مرض السرطان للمرة الأولى في التاريخ.
مزايا اللقاحات الجينية
وتشير أستاذ الميكروبيولوجي في جامعة واشنطن البروفيسور ديبورا فولر، إلى أن لقاحات “دي إن إيه” والحمض النووي الريبوزي، تقدم مزايا هائلة مقارنة باللقاحات التقليدية، نظراً إلى أنها تستخدم فقط الشفرة الوراثية من الفيروسات المسببة للأمراض، بدلاً من استخدام الفيروسات أو البكتيريا بأكملها كما هو الحال في اللقاحات التقليدية التي يستغرق تطويرها شهوراً إن لم يكن سنوات.
كما تتميز اللقاحات الجينية أو الوراثية بالسرعة، ذلك أنه بمجرد حصول العلماء على التسلسل الجيني للفيروس أو البكتيريا المسببة للمرض، يمكنهم تصميم لقاح “دي إن إيه” أو “إم آر إن إيه” في غضون أيام، وتحديد فئات المستهدفين للتجارب السريرية في غضون أسابيع، ومن ثم تصنيع ملايين الجرعات خلال أشهر، وهو ما حدث مع كورونا.
ومن أفضل مزايا العقاقير الجينية أنها تنتج استجابات مناعية دقيقة وفعّالة، فهي لا تحفز الأجسام المضادة التي تمنع العدوى وحسب، بل تحفز أيضاً استجابة خلايا تُعرف باسم الخلايا التائية، وهي خلايا قوية يمكن أن تزيل العدوى في حال حدوثها، الأمر الذي يجعل هذه اللقاحات أكثر قدرة على الاستجابة للطفرات والتحورات، كما يعني كذلك أنها يمكن أن تكون قادرة على القضاء على الالتهابات المزمنة أو الخلايا السرطانية.
وتبشر بروفيسور فولر بأن الآمال لم تعد فقط معقودة على أن اللقاحات القائمة على الجينات يمكن أن توفر في وقت قريب لقاحاً ضد الملاريا أو فيروس نقص المناعة البشرية المعروف باسم الإيدز، أو أن تعالج السرطان الذي يفتك بملايين البشر سنوياً، بل تمتد الآمال إلى أن العقاقير الجديدة المتطورة ستحل محل نظيرتها التقليدية الأقل فعالية، والأهم أنها ستكون جاهزة لوقف الجائحة التالية التي قد تصيب العالم قبل أن تبدأ.
الاكتشاف المبكر للأمراض
خلال تفشي وباء كورونا، استفاد الباحثون بشكل كبير من انتشار الساعات والأساور والخواتم الذكية والتقنيات الصحية الأخرى التي يمكن ارتداؤها، إذ يمكن لهذه الأجهزة قياس درجة حرارة الإنسان ومعدل ضربات القلب ومستوى النشاط والقياسات الحيوية الأخرى، التي مكّنت الباحثين والعلماء من تتبع واكتشاف عدوى كورونا حتى قبل أن يلاحظ الناس أي أعراض.
وعلى الرغم من أن استخدام هذه التقنيات التي يمكن ارتداؤها تعود إلى سنوات مضت، وتزايد الاعتماد عليها باطراد، نظراً إلى قدرتها على جمع البيانات وتحليلها بشكل فوري، فإن التركيز على هذه الأجهزة كان ينصب على الأمراض المزمنة في المقام الأول.
لكن الوباء كان بمثابة عدسة مكبرة أتاحت للعلماء والباحثين فرصة غير مسبوقة لاكتشاف الأمراض المُعدية في اللحظة نفسها التي تشير فيها الساعات والأساور والخواتم الطبية الذكية إلى أن قطاعاً واسعاً من مستخدميها تأثروا بمرض واحد هو كورونا.
ولم يكن هذا ممكناً إلا مع ازدياد عدد الأشخاص الذين يستخدمون أجهزة قابلة للارتداء تشمل وظائف مراقبة صحية تجمع كثيراً من البيانات المفيدة، الأمر الذي ساعد الباحثين في محاولة تشخيص المرض باستخدام بيانات هذه الأجهزة القابلة للارتداء، وهي تجربة لم يحلموا بها من قبل.
عالم ما بعد الجائحة
وبينما يمكن للأجهزة القابلة للارتداء اكتشاف أعراض كورونا أو غيره من الأمراض قبل ظهور أعراض المرض بوضوح على الأشخاص المصابين، فإن أستاذ هندسة الطب الحيوي في جامعة بافالو، البروفيسور ألبرت تيتوس، أوضح أن هذه الأعراض تعد تنبؤية لعدد من الأمراض المحتملة، وقد تشير إلى تغيرات صحية أخرى، ولهذا من الصعب تحديد المرض الذي يعانيه شخص ما.
ومع ذلك، يتوقع البروفيسور تيتوس أن عالم ما بعد الجائحة سيشهد مزيداً من الأشخاص الراغبين في اقتناء الأجهزة الطبية الذكية القابلة للارتداء في حياتهم، وأن الأجهزة ستتحسن وتشكل المعرفة التي اكتسبها الباحثون خلال الوباء لمراقبة الحال الصحية نقطة انطلاق لكيفية التعامل مع تفشي الأوبئة في المستقبل، ليس فقط لمواجهة الأوبئة الفيروسية، ولكن أيضاً للتحوط من أحداث أخرى مثل تفشي التسمم الغذائي والإنفلونزا الموسمية.
طرق جديدة لابتكار الدواء
تعد البروتينات الآلات الجزيئية الصغيرة التي تجعل خلايا الإنسان تعمل، وعندما يتعطل عمل البروتينات أو يهاجمها ويختطفها أحد الفيروسات المسببة للأمراض، يُصاب الإنسان مباشرة بالمرض، ويسعى إلى الحصول على الأدوية التي تعمل في معظمها من خلال تعطيل عمل واحد أو أكثر من هذه البروتينات المعطلة أو المختطفة، ولهذا فإن الطريقة المنطقية للبحث عن أدوية جديدة لعلاج مرض معين هي دراسة الجينات والبروتينات الشخصية التي تتأثر مباشرة بهذا المرض، وعلى سبيل المثال يعرف الباحثون أن جين “بي آر سي إيه” هو جين يحمي الحمض النووي للإنسان من التلف، غير أنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور سرطان الثدي والمبيض، لذلك ركز الباحثون والعلماء كثير من عملهم للبحث عن أدوية جديدة “تؤثر في وظيفة بروتين بي آر سي إيه”.
خرائط البروتينات
وتعد الجينات والبروتينات المشفرة جزءاً من شبكات معقدة يتفاعل فيها بروتين بي آر سي إيه مع عشرات أو مئات البروتينات الأخرى التي تساعده في أداء وظائفه، ولهذا عكف العلماء على استكشاف هذه الشبكات لإيجاد الطرق التي يمكن للأدوية أن تخفف من المرض من خلال رسم خرائط لشبكة واسعة من البروتينات البشرية التي يختطفها الفيروس المسبب للمرض ويعمل على نسخ كثير منها.
ويشير أستاذ علم الأدوية الجزيئي ومدير معهد العلوم البيولوجية في جامعة كاليفورنيا البروفيسور نيفان كروغان، إلى أن فريقاً من الباحثين العاملين معه حددوا خريطة للبروتينات البشرية التي يمكن أن تستهدفها الأدوية لمكافحة كورونا، وأن هذا الفريق اكتشف 69 مركباً يؤثر في بروتينات الفيروسات التاجية على اختلافها، منها 29 عبارة عن علاجات معتمدة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية لأمراض أخرى، كما جرى اكتشاف أن أحد الأدوية المخصصة لعلاج السرطان أقوى بمعدل 27 مرة من دواء ريميديسفير، ودخل المرحلة الثالثة من التجارب السريرية في 12 دولة لعلاج فيروس كورونا.
لكن فكرة رسم خرائط لتفاعلات البروتينات للبحث عن أدوية جديدة لا تنطبق فقط على فيروس كورونا، فقد جرى استخدام هذا النهج على مسببات الأمراض الأخرى، إضافة إلى السرطان والاضطرابات العصبية والنفسية.
اندبندنت