ما بدأ احتجاجاً في درعا على الغطرسة الأمنية صار شرارة أشعلت انتفاضة شعبية سلمية
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
حرب سوريا تدخل في مارس (آذار) الحالي، عامها الحادي عشر. لا أحد بين المنخرطين فيها يستطيع أن ينهيها وحده أو يعرف متى تنتهي. ولا التفاهم الضروري بين اللاعبين لإنهائها بدا ممكناً خلال التجارب المتعددة على مدى عشر سنين.
الكل يسلّم، نظرياً وفي الخطاب السياسي، بأن خريطة الطريق لتجاوز الحرب والأزمة التي قادت إليها هي مندرجات القرار الدولي 2254. ولا شيء يوحي أن التسوية السياسية صارت قريبة.
ما بدأ احتجاجاً في درعا على الغطرسة الأمنية صار شرارة أشعلت انتفاضة شعبية سلمية واسعة تراكمت أسبابها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كانت المطالب إصلاحية، وتصوّر كثيرون أن تلبيتها ممكنة وكافية لوقف كل شيء.
لكن النظام رأى منذ البدء أنه في مواجهة “مؤامرة” و”حرب كونية”، فلجأ إلى العنف والقمع في بداية سلسلة من التحولات: الانتفاضة تحوّلت ثورة تطالب بإسقاط النظام. الثورة صارت بفعل العسكرة حرباً. العسكرة أسهمت في دفع قوى الاعتدال إلى الوراء وأعطت واجهة المسرح إلى قوى التطرف والتطيف. وكل ذلك قاد إلى التدخل العربي والإقليمي والدولي في الحرب، إما مباشرة وإما عبر ميليشيات جيء بها من ثمانين بلداً.
بعض الميليشيات صار نواة “داعش”، وبعضها الآخر حمل علم “القاعدة”، ومعظمها يلعب به أكثر من طرف. والنتيجة: سوريا لم تعُد سوريا التي عرفناها. سوريا التي كانت لاعباً إقليمياً مستقلاً صارت ملعباً تتقاسمه خمسة جيوش أجنبية إيرانية وروسية وتركية وأميركية وأوروبية، ومعها قوات ذات أكثرية كردية تسيطر على شرق الفرات، وميليشيات إرهابية من كل الأنواع إلى جانب “جبهة النصرة” و”داعش”، فضلاً عن أن أجواء البلد مفتوحة أمام الطيران الحربي الإسرائيلي بالتفاهم مع موسكو.
وليس أخطر من اللعبة الجيوسياسية سوى ما على الأرض التي تدور فوقها من تحولات اجتماعية واقتصادية ودمار. المركز السوري لبحوث السياسات قدّر أن خسائر الاقتصاد بين عامي 2011 و2020 تبلغ 530 مليار دولار، أي نحو عشرة أضعاف الناتج المحلي عام 2010. 8 من كل 10 سوريين يعانون الفقر، بحسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية. 9.3 مليون سوري في الداخل يعانون انعدام الأمن الغذائي، بحسب صندوق الأغذية العالمي. نحو 7 ملايين سوري لاجئون في دول الجوار ودول العالم. 80 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، و70 في المئة تحت خط الفقر الشديد، و60 في المئة عاطلون من العمل، كما تفيد أرقام المنظمة الدولية.
من كانوا أطفالاً عند النزوح صاروا جيلاً جديداً من الشباب لا يعرف بلده. والذين ولدوا في الداخل خلال الحرب صاروا أيضاً شعباً جديداً لا تعرف ذاكرته سوى أهوال الحرب. ولا فرصة لإعادة الإعمار من دون تسوية سياسية. والتسوية ليست سهلة، ولم تعُد بين النظام والمعارضين بمقدار ما صارت بين أصحاب الأدوار والجيوش الأجنبية في سوريا.
النظام جرى الحفاظ عليه، والمعارضون ضعفوا، لكن الأزمة صارت أخطر مما كانت عليه قبل عشر سنين. كل الجهود الروسية لإعادة الإعمار فشلت في غياب التسوية التي تشترطها أميركا وأوروبا والدول العربية.
وروسيا التي استعادت دورها كقوة عالمية من خلال انخراطها في حرب سوريا واختبرت 316 طرازاً من الأسلحة الجديدة في الحرب، بحسب وزير الدفاع الجنرال سيرغي شويغو، لم تنجح في وضع التسوية على جدول الأعمال.
حتى اللجنة الدستورية التي شكّلتها بالتفاهم مع دمشق وتركيا وإيران والمعارضين، فإنها لا تزال تراوح مكانها أمام باب المدخل إلى دستور جديد. روسيا رابحة وعالقة. لا تستطيع إكمال المهمة، ولا تريد الانسحاب منها، ولا تبدو قادرة على ممارسة الضغوط المطلوبة منها على النظام والمعارضين لترتيب التسوية السياسية.
وليس أمراً بلا دلالات أن يعترف أخيراً الموفد الروسي الخاص للشؤون السورية ألكسندر لافرنتييف بأن من “الخطأ التصور أن وجودنا في سوريا يعني أن لدينا كل أدوات التأثير في دمشق وإصدار الأوامر الملزمة لها، فلا يسعنا إلا النصح وتقديم بعض التوصيات، لكن القرار في دمشق”.
والمفارقة أن روسيا المحتاجة إلى أميركا وأوروبا من أجل التسوية وإعادة الإعمار، يوحي خطابها أن في أولوية اهتمامها إخراج القوات الأميركية من سوريا.
وفي المقابل، فإن من الأولويات الأميركية والعربية والإسرائيلية الاتكال على روسيا لإخراج إيران وميليشياتها من سوريا. والانطباع السائد لدى النخبة الروسية هو أنه “لا قدرة على فصل النظام عن إيران، والنظام عاجز عن تغيير سلوكه، مع أنه وصل بعد خمسين سنة إلى مرحلة التكلّس، وباتت الحاجة كبيرة إلى سوريا جديدة ونظام يشارك فيه الجميع”.
وما يحدث عملياً أن تركيا تعزز احتلالها للشمال السوري وتبدأ “تتريك” الإدارة والتعليم والعملة. وإيران تعمّق التغلغل في النسيج الاجتماعي السوري وتضاعف قوتها العسكرية وتتصرف على أساس أن الغارات الأميركية والإسرائيلية على ميليشياتها “توجع ولا تردع”.
وأميركا توسع أهدافها من وجودها العسكري شرق الفرات. وروسيا توسع مدارج قاعدة حميميم وتقيم فيها تماثيل لضباط روس وتزيد في نشاطها السياسي والوساطة بين النظام والمعارضين. والحرب مستمرة والتسوية غائبة والخراب كبير.
المقالة تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت