موسكو تصر على حكومة برئاسة الحريري ورفض دولي لتحكم باسيل بحقيبة الداخلية
وليد شقير كاتب صحافي
تتنازع الوسط السياسي اللبناني توقعات متناقضة حول إمكان الخروج من الفراغ الحكومي القاتل الذي يعيشه البلد منذ 10 أغسطس (آب) 2020، ويزيد أزمته المالية الاقتصادية فداحة بدليل تجدد الاحتجاجات الشعبية وقطع الطرقات بقوة، جراء ارتفاع سعر صرف العملة الوطنية، والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الأساسية وسط البطالة التي فاقمتها جائحة كورونا.
وفي وقت يشكل تأليف الحكومة بداية أي معالجات للتأزم الحاصل على المستويات كلها في البلد، يعتقد بعض الوسط السياسي المتابع لجهود إزالة العقبات من أمام ولادة حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين برئاسة زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري، أن ضغط الشارع وتلاقي صرخة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الداعي إلى مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان مع هذا الضغط، وتقاطع المواقف الدولية التي تحمل مسؤولية تأخير الحكومة لتحالف “حزب الله” مع رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل، لا بد من أن ينجم عنها اختراق ما في الشأن الحكومي لتنفيس الضغوط على “حزب الله” واستيعابها. بل إن أصحاب وجهة النظر هذه يشيرون إلى خلاف جدي بين فريق عون وبين “حزب الله”.
في المقابل، ترى شخصيات متصلة بعدد من عواصم القرار، أن عون لن يتراجع على الرغم من الحملات ضده وخلافه مع الحريري على حصته في الحكومة ونيته الإمساك بمفاصل وزارية ترسخ نفوذه على عدد من المؤسسات. وهو يناور ويتمسك بمطالبه، ويشكل غطاءً للعقبة الخارجية التي تحول دون إنجاز الحكومة. فـ “حزب الله” لن يخضع للضغوط وسيبقي تشكيلها واحدة من أوراق إيران التفاوضية مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية على نفوذها الإقليمي. ومسار التفاوض الإيراني- الغربي لن يبدأ في الاتضاح قبل الصيف المقبل.
قلق “حزب الله” من إصرار الراعي على الحياد والتدويل
لماذا أمل بعض الوسط السياسي بإمكان حصول الاختراق جراء الضغوط المتنوعة التي شهدتها الساحة اللبنانية في الأسابيع الماضية، على القوى التي تقف وراء استمرار الفراغ الحكومي؟
في اعتقاد أكثر من مصدر سياسي أنه على الرغم من الحملة من جانب “حزب الله” وبعض مناصريه والشخصيات الشيعية المقربة منه، على تصاعد نبرة البطريرك الراعي الداعية إلى “حياد لبنان الناشط” ثم إلى مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان وهويته من الضياع، جراء “مصادرة قراره”، فإن “الحزب” انزعج من تصدر شخصية روحية مسموعة الرأي حملة سياسية تستهدف تأثيره في السلطة السياسية وفي رئاسة الجمهورية المارونية، لأن في إمكانها تأليب الجمهور المسيحي عليه. فحملة الراعي تؤثر في موقف الفاتيكان حيال إيران، فضلاً عن اتساع رقعة تأييدها على الصعيدين المسيحي واللبناني. ما اضطر حليف الحزب، عون (و”التيار الوطني الحر”)، المعارض للحياد وتدويل الأزمة، إلى تأييد دعوة البطريرك كي لا يخسر مزيداً من الشعبية التي أخذت تتهاوى نتيجة تحميله وباسيل مسؤولية تدهور الأوضاع. المزاج المسيحي العام انقلب بأكثريته نحو اتهام عون وباسيل بالقبول باسترهان البلد للسياسة الإيرانية. وأدى ذلك إلى ضعف الغطاء المسيحي للحزب وبدا أن البطريرك يسحب البساط من تحته، وبات يحتاج إلى تنفيس الاحتقان ضده، لا سيما بعد رد الفعل السلبي على المستوى الشعبي حيال الحملة على الراعي التي بلغت حد تخوينه من قبل المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان، ومن قبل قناة “العالم” الإخبارية الإيرانية التي تبث باللغة العربية.
الحوار مع بكركي والخشية من “الأعداء الأجانب”
اعتبر بعض المتفائلين بإمكان حصول خرق حكومي أن “حزب الله” اضطر إلى تفعيل لجنة الحوار بينه وبين البطريركية المارونية المتوقفة عن الاجتماع منذ زيارة البطريرك الرعوية إلى القدس في عام 2014، التي رأت فيها قيادة “حزب الله” تطبيعاً مع إسرائيل، سعياً لتخفيف الضغوط واستيعاب النقمة.
وأسفر اجتماع اللجنة التي تضم عن البطريركية المارونية النائب البطريركي المطران سمير مظلوم، وحارث شهاب، ومن “حزب الله” محمد الخنسا ومصطفى الحاج علي، عن بيان أكد “ضرورة الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على معالجة الكوارث التي يرزح تحتها الشعب اللبناني، وإنعاش الاقتصاد”. أما في شأن القضية الخلافية، أي “الحياد الإيجابي” فاكتفى البيان بالإشارة إلى الاتفاق على “استكمال البحث في اجتماعات لاحقة”، من دون إغفال الجانبين امتداح زيارة البابا فرنسيس للعراق، “واللقاء التاريخي مع المرجع آية الله السيستاني الذي يُشكل دعامة كبرى في العلاقات الإيجابية الإسلامية- المسيحية ومواقفهما من تشجيع العيش المشترك بين الأديان واحترام حقوق الإنسان أياً يكن انتماؤه الديني”. وقد أراد “حزب الله” تظهير حرصه على تسريع إنهاء الأزمة الحكومية، وعلى حسن العلاقة مع البطريركية، ومع الفاتيكان، لقطع الطريق على توجيه تحرك الأخير في المنطقة على أنه ضد نفوذ إيران. فدعوته في بغداد إلى مساعدة العراق و”ألا تفرض الدول مصالحها السياسية والأيديولوجية” عليه، فُهِمت على أن المقصود بها طهران.
وقبل أيام أكد نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أن “حزب الله” مع تشكيل الحكومة في أسرع وقت ممكن وأنه منذ اليوم الأول مع تسهيل إنجاز التأليف. وشدد قاسم على ان “الحزب لم يكن عقبة وأن المشكلة الأساسية في عملية تشكيل الحكومة هي داخلية وأن التأثير الخارجي يبدو الآن محدودا”، لافتاً إلى أنه “اذا اتفق الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري تنجز الحكومة”.
ودعا إلى “تدوير الزوايا ومحاولة التفاهم لمعالجة المشاكل العالقة”، نافياً أن “يكون موضوع الثلث الضامن قد طرح مع أي جهة”، وتابع ان “حزب الله ليس في موقع من يضرب على الطاولة ولا يفرض أي شيء على حلفائه لأنه غير قادر وغير مقتنع بذلك”.
ويرى مراقبون أن تسهيل “حزب الله” تأليف الحكومة يحيّد الأنظار عن دعوة الراعي إلى تدويل الأزمة اللبنانية، وربما يغني عنها. وعلمت “اندبندنت عربية” أن وفده في الحوار مع البطريركية حذر من “الاتكال على الأجانب” في معالجة الأزمة اللبنانية، ومن أن بعض الدول التي يمكن أن تلعب دوراً في الحلول مصنفة في خانة “الأعداء”، باستثناء المبادرة الفرنسية. وقال مصدر مقرب من وفد البطريركية المارونية لـ”اندبندنت عربية” إنه حاول إقناع وفد الحزب بصوابية الدعوة إلى المؤتمر الدولي، على أن يستكمل البحث به وبموضوع الحياد في اجتماع لاحق، لكنه طلب تسهيل تأليف الحكومة، فكان الجواب أن قيادته تسعى في هذا الاتجاه.
تحوّل في باريس وموسكو… وبموقف قائد الجيش والشارع
مع تجدد الانتفاضة في الشارع منذ مطلع مارس (آذار) الجاري، أطلقت شعارات أخذت منحى أوسع من السابق بدعوة عون إلى الاستقالة، مع مشاركة جمهور موالٍ لـ “حزب الله” في عمليات قطع الطرقات والاحتجاجات، فشكل ذلك عنصراً ضاغطاً إضافياً سمح للبعض بترقب إذا ما كان سيسرع تأليف الحكومة، وسط تكهنات بأن “حزب الله” لم يمانع في تصاعد ضغوط الشارع على حليفه عون، كي يتخلى عن شروطه الحكومية، بعدما رفض هو وباسيل التجاوب مع اقتراحاته للحلول الوسط. فعلى الرغم من نفي الرئاسة أنها تطلب الثلث المعطل في الحكومة، والحزب يدعو إلى عدم حصول فريق واحد على هذه القدرة التعطيلية، فإن توزيع الأدوار بين عون وباسيل، أبقى على هذا المطلب بطريقة مواربة.
وحصل في هذا السياق تلاقٍ بين الضغط الشعبي وبين الموقف الذي أعلنه قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي انتفض بدوره وشكا باسم المؤسسة العسكرية تردي أوضاع العسكر المعيشية، مؤكداً حماية التظاهر. ورفض دعوة رئيس الجمهورية الجيش والقوى الأمنية إلى فتح الطرقات بالقوة، وشدد على ضرورة الحلول السياسية وقيام حكومة جديدة تنكب على الحلول للأزمة. وكان بارزاً قوله “ممنوع كائناً من كان أن يتدخل في شؤون المؤسسة العسكرية، لا بالتشكيلات ولا بالترقيات ولا بالتطويع ولا برسم مسارها وسياستها”. وهي أمور دأب على محاولة التأثير فيها محيط الفريق الرئاسي وباسيل.
أما عامل الضغط الدولي لوقف تعطيل الحكومة، فنجم عن تحول في موقف عاصمتين مؤثرتين حيال أزمة لبنان، باريس وموسكو. فالأولى انتقلت إلى تسريب مواقف عن أوساط قريبة من الرئاسة الفرنسية، بأن الانسداد في أفق التأليف سببه موقف باسيل وشروطه، داعية إياه إلى وقف التعطيل لأنه يقف وراء الشروط التي يطرحها عون. وعلمت “اندبندنت عربية” أن هذه التسريبات جاءت عن قصد من أعضاء في خلية الأزمة التي أنشأها الرئيس إيمانويل ماكرون، اطلعوا على تفاصيل ما جرى في بيروت في الأسابيع الماضية، بعدما كانوا يوزعون مسؤولية تأخير الحكومة بالتساوي بين عون والحريري، فباتوا يلقون باللائمة على باسيل وعون. فالمعطيات التي تجمعت لديهم أفادت بأن فريق عون يوحي بتليين موقفه، لكنه لا يلبث أن يغير.
واكب ذلك جديد في موقف الجانب الروسي، الذي نشأت حساسية بين مسؤوليه وبين قيادة “التيار الوطني الحر”، بعد مطالبة باسيل نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، في مكالمة هاتفية، بأن تقف بلاده صاحبة الهوية المسيحية، “مع من يدافع عن حقوق المسيحيين”، وهو ما أثار حفيظة الدبلوماسية الروسية الي لا تعنيها المنطلقات الطائفية. ازداد انحياز الجانب الروسي إلى جانب وجهة نظر الحريري، وهو ما تجلى في لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 9 مارس معه في أبو ظبي، على هامش جولة يقوم بها الأخير على دول الخليج. فبيان الخارجية الروسية حرص على التأكيد أن الحريري “رئيس الحكومة الذي بنتيجة الاستشارات النيابية للكتل البرلمانية في البرلمان تم تكليفه من الرئيس ميشال عون لتشكيل حكومة جديدة”، مذكراً بهذه العبارة أن زعيم “المستقبل” يحظى بشرعية البرلمان، رداً على ما ينقل بين الحين والآخر عن عون بأنه لا يحبذ ترؤس الحريري للحكومة. وكررت موسكو بهذا الأسلوب دعمها الحريري لترؤس “حكومة مهمة من التكنوقراط”، وفق إشارة البيان الذي نص على “البحث المعمق لوضع حد للوضع المتأزم في لبنان وتشكيل حكومة”. وهذه العبارة تلقي الضوء على جانب من خلفيات زيارة سيقوم بها رئيس كتلة نواب “حزب الله” محمد رعد إلى موسكو على رأس وفد للاجتماع إلى كبار المسؤولين في الخارجية الروسية من أجل بحث الوضع في لبنان وفي سوريا.
رفض غربي وعربي لتحكم باسيل بالداخلية
تزامن تلاقي هذه العوامل مع استئناف وساطة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم تجديداً لحل وسط كان قد طرحه بالتنسيق مع رئيس البرلمان نبيه بري (قبل 3 أسابيع) وبموافقة “حزب الله”، يقضي بقبول عون التخلي عن الثلث المعطل سواء صراحة أو مواربة، وباشتراط الحريري أن تكون الحكومة من 18 وزيراً لا من 20 كما طلب باسيل و”حزب الله”، وأن تتم تسمية وزير الداخلية المختلف عليه بين الرئيسين، من قبل عون، في سلة أسماء يقترحها ثم يختار الحريري من بينها، على أن يحجب تكتل “لبنان القوي” النيابي، الذي يرأسه باسيل (20 نائباً) الثقة عن الحكومة. ونقل اللواء إبراهيم موافقة الرئيس عون عليه، وأُبلِغ مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل به، فاستفسر بدوره من الحريري عنه.
المصادر الوثيقة الصلة بالمداولات حول هذا الاقتراح أشارت إلى ارتياب الحريري منه. وسأل مقربون منه “لماذا لا يبلغه عون بتنازله عن الثلث المعطل؟ ولماذا قرر باسيل حجب ثقة نوابه عن الحكومة في وقت كان رئيس الجمهورية يبلغه في الاجتماعات الـ16 التي عقدها معه أنه يفاوضه باسمه وباسم التيار الوطني الحر ونوابه وباسيل؟ ولماذا جرى بث هذا الاقتراح في الإعلام بالتزامن مع اتهام حزب الله الحريري بأنه لا يريد تأليف الحكومة؟”.
وما زاد ريبة الحريري أنه جرى تبرير موافقة عون عليه، بأن الأخير على خلاف مع صهره باسيل، الأمر الذي يعتبره محيط الرئيس المكلف مناورة.
إلا أن صيغة تسمية عون وزير الداخلية تلقى اعتراضاً لدى أوساط سياسية معارضة للفريق الرئاسي، لأنها تعني أن عون سيأخذ باقتراحات باسيل في الأسماء، ما سيؤدي إلى تحكم الأخير بهذه الحقيبة الوزارية الحساسة لاحقاً، وهو أمر تبلغ المعنيون في لبنان أن الأميركيين والفرنسيين والدول العربية يعترضون عليه كلياً، ويستحيل على الحريري أن يقبل به لأنه سيقوض الموقف الخارجي من حكومته.