الفاتيكان أعطى كثيراً وإيران لم تبادله بالمثل!


البابوية تعيد رسم استراتيجيتها من القاهرة إلى أبوظبي فالنجف… وطهران منزعجة

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني


تعود العلاقات الإيرانية مع الفاتيكان إلى منتصف القرن الماضي (1954)، واستمرت بعد سيطرة الخميني على السلطة. وفي القرن الحالي زار رئيسان إيرانيان عاصمة الكثلكة، الرئيس محمد خاتمي في 2007 والتقى البابا يوحنا بولس الثاني، والرئيس الحالي حسن روحاني حلّ في الفاتيكان مطلع العام 2016، والتقى مطولاً البابا الحالي فرنسيس.

جاء اللقاء بعد توقيع الاتفاق النووي الذي رُفعت بمقتضاه العقوبات عن إيران، وفي المقر البابوي طلب روحاني من فرنسيس أن يصلي لأجله، وحازت السلطات الحاكمة في طهران رضى عميقاً من جانب البابوية عبّر عنه البيان الصادر عنها في حينه، فقد أكد الفاتيكان “الدور المهم المطلوب من إيران أن تقوم به، إلى جانب الدول الأخرى في المنطقة لتشجيع حلول سياسية مناسبة للمشكلات التي تؤثر في الشرق الأوسط، ومحاربة انتشار الإرهاب وتهريب السلاح”.

استفادت إيران من الموقع المعنوي للفاتيكان كي تستدرج اتفاقات ورسائل أوروبية، وحرصت طوال سنوات على تقديم نفسها القطب الإسلامي في حوار الأديان إلى جانب روما، وحاولت طهران ترجمة هذه الرؤية في سلسلة مؤتمرات لحوارات الأديان، ساعية إلى وضع قم في مقابل روما، مركزاً دينياً يشرف عليه ولي الفقيه الذي يوازي في مهماته الدينية رأس الفاتيكان، ويفوقه قدرة على التصرف في أمور الدنيا.

لم تستمر سياسة الابتسامات الروحانية الظريفة طويلاً، فقد أعقب الاتفاق النووي، انقلاب الحوثي في اليمن، وبدء حرب مدمرة تتواصل فصولها حتى اليوم بتشجيع إيراني صريح، رغم رفضها التورط في تسليح الحوثيين، وفرضت طهران إرادتها في الانتخابات الرئاسية اللبنانية بعد تجميدها أكثر من عامين، وتحركت بقوة في سوريا دعماً لنظام الأسد، واستعجلت التدخل الروسي إلى جانبها.

وفي العراق، اندلعت أعمال تفجير وعنف تسببت بمقتل 662 عراقياً وإصابة نحو 1500 آخرين خلال شهر واحد، يونيو (حزيران) 2016، وسبق ذلك في مايو (أيار) مقتل 468 مدنياً و399 عسكرياً، وفي أبريل (نيسان) قتل 410 وجرح 973 من المدنيين، و331 من العسكريين.

كانت تلك فترة صعود تنظيم “القاعدة”، التي ستنتهي في ظل رئيس الحكومة الموالي لإيران نوري المالكي إلى انهيار قوى الأمن أمام داعش في الموصل، ونشوء ما سيعرف بـ “الحشد الشعبي” بمن يضمه من الميليشيات التابعة لإيران.

تحول الرهان الفاتيكاني والدولي على دور إيراني إيجابي في الشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي إلى كابوس سياسي، حيث مضت إيران في سياسة التوغل في المنطقة العربية، وتوالت خطاباتها عن السيطرة على العواصم الأربع والفوز في انتخابات لبنان، ولم تصحّ توقعات المتفائلين في الفاتيكان وأوروبا عن تغيير في المشهد، فبدلاً من الحلول أضيفت مشكلات، وتفاقم التنافر الشيعي – السني بتغذية إيرانية، في وقت كان البابا فرنسيس يحاول تكريس نهج الانفتاح والحوار الشاملين، وخوض تجربة تفاهم واسعة تشمل الأديان السماوية الثلاثة إلى ما يتعداها من أديان تعتنقها شعوب العالم التي تعيش جنباً إلى جنب، بهدف خدمة الإنسانية وأحلامها في السلام والعيش الكريم.

إذا كان 2016 عام الذروة في التقارب الإيراني – الفاتيكاني، فإن الأعوام التي تلته تميزت بخطوات بارزة على طريق رسم استراتيجية أشمل للمسعى البابوي، قاعدته التقارب مع ما يمكن تسميته “الإسلام العربي”.

لم يفصح الفاتيكان صراحة عن صدمته من السلوك المذهبي السياسي لـ “الإسلام الإيراني”، إلا أنه خطا خطوات ذات معنى عميق في اتجاه الإسلام العربي، وكانت زيارته فلسطين والأردن في 2014 مهمة لتعميق فهمه للمشكلة الفلسطينية، وحلّ ضيفاً على الأزهر ليترأس مع شيخه أحمد الطيب مؤتمراً لحوار الأديان، سيتوّج بعد عامين بوثيقة أبوظبي للأخوّة، خلال الزيارة الأولى لبابا روما إلى الجزيرة العربية.

كان الطيب فخوراً ومرحباً بزيارة “أخيه فرنسيس” إلى العراق، ففي هذا البلد العربي الممزق سيكتمل لقاء الفاتيكان بـ “الإسلام العربي”، مع الاجتماع الدافئ والمسؤول بين البابا والمرجع الشيعي علي السيستاني في مدينة النجف، إلا أن إيران التي ذهبت بعيداً في ممارسات نقيضة لفكرة التقارب بين الأديان والشعوب، خصوصاً بين أبناء البلد الواحد، لم تكن مرتاحة لزيارة فرنسيس إلى بلاد الرافدين، خصوصاً لقائه السيستاني، فهذا أمر يهدد نفوذها ويجعل مرجعيتها رقماً إضافياً في تراتبية المرجعيات الشيعية.

يمكن اعتبار التصعيد الذي مارسته الميليشيات الإيرانية في العراق عشية الزيارة البابوية محاولة لمنعها عبر التصويب على المخاوف الأمنية، غير أن إصرار البابا على الزيارة وإصرار المسؤولين العراقيين، جعلاها تحصل. ولدى حصولها لم يجد الإيرانيون ما يقولونه سوى ما تفوه به حسين أمير عبد اللهيان الذي عمل طويلاً في إدارة ملف التدخل بشؤون دول الخليج، فقد زعم أنه “لولا دور أبومهدي المهندس واللواء قاسم سليماني وتضحياتهما، لما تمكن البابا من دخول العراق”.

معنى ذلك أنه لولا إيران وموافقتها لما تمكن رأس الكنيسة الكاثوليكية من الوصول إلى هذا البلد، وبقدر ما في هذا التصريح من غضب على نجاح الزيارة، ففيه أيضاً هذا الاستكبار الإيراني الذي يعتبر المنطقة أوراقاً في يديه، والجولة البابوية كشفت مرة أخرى جانبي موقف حكام إيران على حقيقته العارية.

اندبندنت