“في أميركا حذر وعداء لما تسميه النخبة النافذة الانتقامية الروسية وفي روسيا مرارة من إعلان واشنطن الانتصار في الحرب الباردة”
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
كل ما ربحته روسيا عسكرياً في جورجيا وأوكرانيا وسوريا جاء في غياب القيادة الأميركية، وأقل ما تفعله سياسياً وديبلوماسياً هو السعي لئلا تخسر ما ربحته. كان من السهل على الرئيس فلاديمير بوتين أن يلعب مع الرئيس باراك أوباما، ثم أن يتلاعب بالرئيس دونالد ترمب، لكن اللعبة مع الرئيس جو بايدن تبدو صعبة ومعقدة، ففي أول خطاب عن السياسة الخارجية، قال بايدن إنه أبلغ بوتين في الاتصال الهاتفي بينهما أن “أيام تراجع الولايات المتحدة أمام التصريحات العدائية لروسيا وتدخلاتها في انتخاباتنا وهجماتها السيبرانية وتسميمها للمواطنين، انتهت”، وكان قال له أيضاً خلال لقاء بينهما في موسكو العام 2011، هو كنائب رئيس وبوتين كرئيس للوزراء، “أنظر في عينيك ولا أظن أن لديك روحاً”، في إشارة إلى قول الرئيس بوش الابن إنه “رأى روحاً” في عيني الرئيس الروسي، وأن “العمل معه ممكن”.
يومها ابتسم بوتين وقال “نحن نفهم بعضنا بعضاً”. وأخيراً، قال المتحدث باسم الرئيس الروسي إن خطاب بايدن “عدائي جداً”، وهذه مجرد بداية يصعب حالياً تصور ما قد يحدث بعدها من تطورات وتنازلات على الطريق، ففي أميركا حذر وعداء لما تسميه النخبة النافذة “الانتقامية الروسية”، وفي روسيا مرارة من إعلان واشنطن الانتصار في الحرب الباردة التي قال غورباتشوف إن نهايتها كانت بالتفاهم والزهو لسقوط الاتحاد السوفياتي، وإذلال روسيا أيام يلتسين.
ذلك أن بوتين الضابط في الاستخبارات السوفياتية هو عملياً وريث روسيا السوفياتية القوية، وروسيا الضعيفة مع يلستين وحتى روسيا القيصرية. شيء مثل “النسر الروسي المزدوج الرأس” الذي كان علم القياصرة، وهو العلم الذي قال الشاعر الروسي فاسيلي كوروتشكين عام 1857 إنه “مصدر مصائبنا: لديه أربع عيون لكنه لا يرى شيئاً، ونحن جبناء وشجعان في الكلام فقط، لأننا جميعاً مزدوجون مثل النسر المزدوج الرأس”. وحتى سياسته، فإنها تطبيق لوصفة الشاعر الروسي فيودور تيوتشيف عام 1864، إن “سياسة روسيا الطبيعية تجاه الغرب يجب ألا تبحث عن تحالفات مع قوى غربية، بل أن تفيد من الخلافات والانقسامات في الغرب”. وبوتين قال بوضوح في وثيقة “روسيا على مطل الألفية” إن روسيا “لن تصبح نسخة من أميركا أو بريطانيا حيث القيم الليبرالية لها جذور تاريخية، ولدى الروس دولة قوية وثابتة ومبادرة إلى التغيير”، وهو تعلم من خبرته في ألمانيا أن أي شخص في الغرب يمكنك أن تشتريه. والتاريخ علّمه أن روسيا هي القطب المقابل للغرب، أما مهندس حكمه فلاديمير سيركوف، فيقول إن “روسيا يمكن الحفاظ عليها فقط كدولة عسكرية بوليسية، وبوتين هو القائد الوحيد الذي يثق الشعب به، والبوتينية مثل الماركسية، واللينينية ستستمر لقرون”، وهذا ما جعل تيم وينر يقول في كتاب “الحماقة والمجد: أميركا وروسيا وحرب العصابات السياسية”، إن “الحرب والسلم ليسا شيئاً مزدوجاً بالنسبة إلى روسيا، بل هما متقابلان وفي مكان بينهما تقع حرب العصابات السياسية والإجراءات الفعّالة كطريقة في تقديم قوتها ضد عدو من دون إطلاق الصواريخ”.
لكن توماس غراهام من “مجلس العلاقات الخارجية” في نيويورك انتقد في مقالة عنوانها “دع روسيا تكن روسيا” تفكير الغرب وسلوكه، وقال إن حلم رؤساء أميركا بانخراط روسيا في المجتمع الأورو-الأطلسي وإقناعها بتغيير جوهري في تقرير مصالحها ورؤيتها إلى العالم أدى إلى فشل كبير”، و”أفضل مقاربة هي البدء من الاعتراف بأن العلاقات مع موسكو كانت دائماً تنافسية جوهرياً، منذ ظهور أميركا كقوة كونية في نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم”.
والممارسات في الواقع تؤكد أن روسيا تعمل على “زرع الشوك على طريق أميركا”، وخلق موقع فوضى جديد لها، وليس ذلك خارج المألوف، فإن ما انتهى بانتهاء الحرب الباردة هو “النقاش الأيديولوجي، لكن الجدل الجيوسياسي لم ينته، لأن لكل الدول مصالحها الوطنية، وستكون القوة العسكرية أداة السياسة العالمية، والسؤال هو كيف تُستخدم القوة؟” كما قال بوتين، أما بايدن فيرى أن “بوتين يقول إن الفكرة الليبرالية تقادمت لأنه يخاف منها”.
والعالم يبدو منقسماً في الرأي إلى مدرستين: مدرسة الخائفين من صراع الكبار على القمة، ومدرسة المرتاحين إلى الصراع لأنه يسمح للقوى المتوسطة بشيء من حرية الحركة والتملص من الهيمنة عبر اللعب بين الكبار.