عالم مصاب بكورونا التكرار


التظاهرات في المنطقة نفسها منذ عقد والحاصل في الغرب الأفريقي لا يفترق كثيراً عن الشرق

أحمد الفيتوري كاتب

رواية “الزوجة المكسيكية” للكاتب إيمان يحيى، التي أعدتُ قراءتها هذه الأيام. لمّا لم أجد جديداً يستهويني، ولا حتى قراءة نقدية أو مراجعة ما لكتاب تلفت النظر إلى ما يستدعي المطالعة. الرواية التي جئتها بدافع المحبة واليأس من جديد، لفتت نظري تيمتها الرئيسة، ما يمكن قوله تناصاً مع رواية أخرى: رواية “البيضاء” ليوسف إدريس، التي صدرت منذ ما يتجاوز النصف قرن.

الشخصية الرئيسة في الرواية الأولى هي شخصية رئيسة في الثانية، وفي الروايتين الراوي العليم يمكن القول هو الكاتب، فكأنما الأولى سيرة ذاتية لكاتبها، عن سيرة كاتب الرواية الثانية، التي هي أيضاً كما سيرة ذاتية لكاتبها يوسف إدريس. وليس هذا فحسب بل الشخصية الرئيسة في “الزوجة المكسيكية”. سامي جميل، أستاذ النقد بالجامعة الأميركية بالقاهرة، عند المدخل يقول عن “البيضاء”: “أحسب بأن هذه الرواية عجيبة فريدة. الخيال فيها واقع حقيقي، والواقع فيها غارق في الخيال. ينمحي الحد الفاصل بينهما، فلا تعود تعرف أيهما هذا، أو أيهما ذاك”، وهذا تقريباً ما يصدق أيضاً على “الزوجة المكسيكية”.

أثناء القراءة، وكنت أطالع الرواية للمرة الثالثة، أقطع أوصال الملل، بأن ألقي النظر على الشاشة فالتلفزيون مفتوح. ومن دون حرص أشاهد ما يعرض، ما تغص به المحطات من تمثيليات وأفلام معادة، فنشرات أخبار، هي نسخة واحدة في كل المحطات بطبيعة الحال. لكن المستغرب أني أجد التباساً في ما ألمح، فلا أفطن لما يعرض: نشرة أخبار أم تمثيلية تلفزيونية؟ هذا الخبر عن تونس أم لبنان؟ وهذه التظاهرات أين ومتى حدثت؟ في 2011 أم 2021؟

أعود للقراءة والعود أحمد، سامي جميل طفق يلقي دروسه النظرية، على تلميذته الأميركية سامنثا: “نعم، هي ظروف ما بعد الثورة، والنضال من أجل الجلاء. لا يمكن تناول أي عمل فني من دون الرجوع إلى الزمن الذي كتب فيه، وأيضاً إلى العصر الذي عبّر عنه. الزمن وحدة غير قابلة للانقسام جغرافياً”. وقبل أريد ذكر أن الرواية ترصد زمنين، هما زمن الشخصية الرئيسة في “البيضاء” أوائل خمسينيات القرن العشرين، عقب حرب كبرى ثانية، انقلاب عسكري/ ثورة 23 يوليو(تموز) المصرية، وزمن كتابة الرواية عقب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أو بالأصح ما قبلها بقليل.

الأحداث في “الزوجة المكسيكية” مما تتناوله يخص التلميذة الأميركية، وتورطها في الأحداث المصرية حينها مثلما “حركة كفاية”، وهي الطالبة التي قدمت إلى مصر كباحثة في الأدب، تكشف مع أستاذها، عن قصة زواج الكاتب يوسف إدريس من روث مارين، ابنة فنان الجداريات العالمي المكسيكي دييجو ريفيرا. ورواية “البيضاء” كما هي رواية سيروية تتناول حياة “يوسف إدريس” أثناء كتابة الرواية، هي تتناول زمن كتابة الرواية. وكما بين الروايتين من وشائج، فإن بين زمن السرد الروائي فيهما شجوناً.

مع أنني أطالع الرواية على مهل، فإني كنت بهذا أقطع أوصال زمن الكورونا من حجر وتباعد. ما جعلني أقلب المحطات التلفزيونية، التي تضخ الأخبار والأكثر العواجل منها، لا تنتهي من عاجل حتى تغص في آخر. لكن “الزوجة المكسيكية” التي تبدأ باعتقال سامنثا التلميذة الأميركية في العقد الثاني من الألفية، وتنتهي باعتقال يحيى بطل “البيضاء” في خمسينيات القرن الماضي، نبهتني إلى أن ما أشاهد، لم يقطع خيط السرد ولا أوصال الرواية، لأنه عاجل لخبر مكرور وأحداث متشابهة حتى التماهي. ما بين ما يحدث في أفغانستان وبين العراق، ما يحدث منذ عشرين سنة في حرب لا تنتهي وتدخل أميركي مستدام، وأن الهجرة غير الشرعية والمسألة الليبية تؤامان كما اليمن وسوريا… وهلم جرا.

حقاً الأخبار تتدفق والعاجل الرئيس، لكن التظاهرات في المنطقة نفسها منذ عقد، في السودان أو الجزائر أو ما كان في مصر وتونس. والحاصل في الغرب الأفريقي لا يفترق كثيراً عن الحاصل في الشرق. تبدو المتشابهات أكثر بكثير من المفرقات، والوجود الأميركي الطاغي في كل هذا، كما في الخليج العربي كذلك في دولة الملالي الفارسية. منذ عقود لا شيء يحدث ولا أحد يجيء غير العم سام، حتى في سوريا بطل الأبطال ونجم النجوم: اليانكي، مع أن الشام قاعدة روسية، يتعارك فيها الشيعي الفارسي والسني التركي، ويداعك وبيد من حديد اليهودي.

تبدو الأحداث نسجاً على المنوال، وكأن التاريخ يعيد نفسه، بل إن ما يحدث: خارج المكان والزمان. الرواية في هذا واقعية أكثر من الواقع الذي تتناول، حيث ترصد سرابية ما يحدث منذ الحرب الكبرى الثانية وحتى الآن، وفي سردية سلسة تنسج: أن حقيقة ما جرى في “البيضاء” يجرى في “الزوجة المكسيكية”، وما بعدها.

الواقع الشائك، الهويات المضطربة في المنطقة، تجعل المنطقة تنفذ أمراً عسكرياً “محلك سرّ”.

  • “الزوجة المكسيكية”- رواية إيمان يحيى – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 2018.