ما تطرحه بكركي هو مشروع لإنقاذ الرهينة اللبنانية من الأسر
رفيق خوري كاتب مقالات
ليس ما يبدو نوعاً من التخبط العشوائي في لبنان سوى مظاهر على سطح عمل منهجي في العمق. تعطيل التفاهم على حكومة إنقاذية وتسهيل الفراغ السلطوي جزءان من تخطيط لممارسة التسلط، وإن رافقهما عناد وخلاف على حصص. الانهيار المالي والاقتصادي عمل منهجي، بحيث تتحول خسائر البلد والناس إلى أرباح للنافذين. التهجم المستمر من حزب الله وحلفائه على الولايات المتحدة وأصدقاء لبنان في العالم والأشقاء في الخليج هو تكتيك في خدمة استراتيجية إمساك إيران بلبنان. البطريرك الماروني بشارة الراعي يعرف سلفاً أن مشروع “الحياد والتدويل” يصطدم بمشروع “الممانعة والمقاومة” الذي تقوده طهران. وحزب الله يعرف أن مشروعه لتغيير الجيوبوليتيك والجوهر في لبنان يصطدم بقوة التاريخ وقوى محلية وعربية وإقليمية ودولية. فما تطرحه بكركي هو، بصرف النظر عن المجاملات والتوضيحات والاستثناءات، مشروع لإنقاذ الرهينة اللبنانية من الأسر. وما يحرص عليه حزب الله، بصرف النظر عن لهجة الخطاب التي تراوح بين الاستعداد للحوار والتهديد بالحرب، هو قتال أي مشروع ضد المشروع الإيراني أو ضد السلاح غير الشرعي أو يخلق قوة تزاحم النفوذ الإيراني.
والسؤال الكبير المطروح في لبنان هو: على ماذا يراهن البطريرك الراعي لتمكين اللبنانيين من”استرداد الدولة من الدويلة” والعودة من”توازن القوى” إلى”قوة التوازن”؟ وما الذي يجعل حزب الله يبدو مطمئناً إلى أن محور “الممانعة والمقاومة” هو الرابح والمنتصر في لبنان والمنطقة؟ بكركي تراهن على تنامي قوة الاعتراض في الداخل على تغييب الدولة وقطع لبنان عن تاريخه وطبيعته وعلاقاته العربية والدولية، كما تأمل في دور الأصدقاء الدوليين، وتعتمد على رعاية الفاتيكان الدائمة للبنان الذي هو “أكثر من بلد، إنه رسالة”، كما قال البابا يوحنا بولس الثاني قبل تقديم “الإرشاد الرسولي” للتجدد اللبناني. وحزب الله يراهن على ما لديه من “فائض القوة” وما بقي له من تفاهم مع عهد يحتاج إليه. والأهم هو الرهان على صفقة أميركية- إيرانية كثرت الأحاديث حولها بعد فوز جو بايدن بالرئاسة وإعلان استعداده للعودة إلى الاتفاق النووي وتركيب فريق في الإدارة من الذين شاركوا في التفاوض مع طهران على الاتفاق الذي خرج منه دونالد ترمب. طرف يتكل على قوى تتجمع في الداخل، ويتوقع مساعدة الأصدقاء الدوليين. وآخر يضيف إلى قوته المرتبطة بالقوة التي تبالغ فيها جمهورية الملالي ما يسلّم به الأعداء. والنتيجة صدام مشروعين يحتاج كل منهما إلى ما ليس في اليد، ويصعب تحقيق أي منهما.
وذلك أن مشروع الحياد والتدويل يحتاج إلى ثلاثة: وفاق وطني، بيئة إقليمية مناسبة، وتوافق دولي بين الكبار في مجلس الأمن. الوفاق ناقص وسط انقسام حاد مفروض. البيئة الإقليمية مضروبة باضطراب وأكثر من حرب. والكبار يتصارعون استراتيجياً في المثلث الأميركي- الصيني- الروسي. ومشروع حزب الله الذي ينتظر صفقة بين أميركا وإيران يعيش في أحلام اليقظة. أولاً لأن الصفقة مسألة صعبة ومعقدة. وثانياً لأنها متعثرة حتى في بداية الطريق نحو البند الأول فيها، وهو الاتفاق النووي: واشنطن تريد سد ثغرات في الاتفاق وتشديد القيود على الطرف الإيراني، وطهران تريد رفع العقوبات الأميركية دفعة واحدة قبل التراجع عن خرق التزاماتها بموجب الاتفاق، رافضة أي تفاوض عليه. وثالثاً لأن ما تطلبه أميركا وانضمت إليها فرنسا وألمانيا وبريطانيا هو الحد من الصواريخ الباليستية، والتوقف عن “زعزعة الاستقرار” في الشرق الأوسط، والانسحاب الإيراني من اليمن والعراق وسوريا ولبنان أو أقله تحجيم النفوذ الإيراني. وما يعلنه المرشد الأعلى علي خامنئي بوضوح هو أنه يرفض تجريد إيران من قوتها الصاروخية والتخلي عن نفوذها في المنطقة لأنهما من أسس “الثورة الخمينية” ومشروعها.
ومن الصعب تصور أميركا تسلّم بالنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط مقابل التخلي عن صنع القنبلة النووية، وهي تعمل على إخراج ذلك النفوذ من المنطقة. والأصعب هو تجاهل العرب ودورهم على المسرح الشرق أوسطي. تجاهل روسيا التي صارت جارة لبنان والعراق وكل العرب وإسرائيل من خلال وجودها العسكري وقواعدها الدائمة في سوريا. نسيان تركيا وطموحاتها الجيوسياسية وإسرائيل وهواجسها الإيرانية، من الصواريخ في لبنان وسوريا إلى القنبلة النووية.
والمفارقة أن البديل من المشروعين أسهل وأقرب إذا كانت الوطنية اللبنانية هي المعيار. إنه مشروع الدولة. دولة عادلة وقوية تحمي الحدود والناس وتمسك بقرار السلم والحرب وتحارب الفساد والسرقة بما يدفع العرب والغرب إلى تقديم المساعدات التي تساهم في التعافي المالي والاقتصادي. لكن المشكلة تكراراً، أن الانقسام منهجي لا عشوائي. والأنانيات والشهوات الصغيرة والمطالب الفئوية والشخصية “تعربش” على عربة الحسابات الإقليمية الواسعة. والمناخ العام مناخ حرب أهلية باردة مفتوحة على أبعاد إقليمية ودولية.