رواية الحياة


الموضوعية والحياد والصدق ضرورات لكتابة السير الذاتية فكل شيء يغتفر إلا العبث بالتاريخ

مصطفى الفقي كاتب وباحث

كثيرة هي السير الذاتية التي بدأت تكتسب أهمية في الحياة الثقافية المعاصرة، ذلك أنها غالباً ما تكون مجموعة من الحقائق في سياق تاريخي وقالب روائي، ولقد ازدحمت المكتبة العربية بنماذج لكتب السيرة الذاتية للأعلام في مجالات الفكر والعلم والأدب والفن وغيرها من الرموز المعاصرة، وتزداد قيمة كتاب السيرة إذا كان صاحبه يميل إلى الصدق الكامل والشفافية الحقيقية، بعيداً من الأهواء والعنتريات وترديد عبارات عشق الذات، حتى يتصور البعض أنهم ملهمون ويمثلون حالات خاصة بين البشر، بينما الأمر يختلف عن ذلك تماماً. فالأمانة العلمية والمصداقية الشخصية تلزمان كاتب السيرة الموضوعية والحياد إلى جانب الدقة والوضوح حتى يمكن أن تستفيد الأجيال المقبلة من تفحّص سيرة الآباء والأجداد والاستفادة من تجارب السابقين واحترام “فضل الأقدمين” على حد تعبير “عبد الله بن المقفع” منذ أكثر من ألف عام.

ولقد عكفت شخصياً في أشهر عزلة كورونا على كتابة صفحات مطوية من مسيرتي الذاتية، ولكني رأيت أن تكون على نحو مختلف، فليست سيرة بطل هو صاحبها ولكن البطل الحقيقي هو كل حدث على حدة، بحيث يخرج القارئ من مجموعها بتصورات دقيقة وأفكار أمينة تمثل رصيداً له، خصوصاً أولئك الذين يعبرون مرحلة الشباب ويستقبلون العمر المقبل بحماسة وحيوية، فلقد أدهشني حجم الاستقبال الضخم الذي حظيت به مذكراتي تحت عنوان “الرواية… رحلة الزمان والمكان”.

 اجتمعت حول هذه المذكرات كتابات ضافية ودراسات متعمقة بأقلام أساطين الفكر والثقافة والأدب والصحافة وعلى الرغم من أنني كنت محايداً حتى النخاع،  صادقاً بغير تردد، إلا أنني لم أسلم من بعض الافتراءات الكيدية التي تتوهم أنك إن لم تفرط في مديح ذويهم بالحق وبالباطل، فأنت آثم قلبه، متحول فكرياً وشخصية مطاطية! وأزعم أن الذين قالوا ذلك لم يقرأوا الكتاب حتى يدركوا كم هي صفحاته محايدة وآراؤه موضوعية ورواياته صادقة، ليس فيها كلمة تجريح، أو عبارة افتراء، أو تحامل على أحد، فلقد أعطيت كل ذي حق حقه وأوضحت أن الرئيس الراحل مبارك كان قائداً عسكرياً جسوراً وحاكماً وطنياً بامتياز، ولكن سنوات حكمه، خصوصاً تلك الأخيرة منها قد لحقت بها شوائب نتيجة التزاوج الذي جرى بين السلطة والثروة، مما أدى إلى ضياع بعض الفرص التي كان يمكن أن تدفع الرئيس مبارك إلى مقدمة حكام مصر، وحافظت في كل سطر على احترامي لا للرئيس وحده ولكن للجميع، كما حرصت على ذكر الإيجابيات قبل السلبيات ولم أكتب رواية واحدة إلا وشهودها أحياء أو بعضهم على الأقل، وانتقدت ذاتي كثيراً وتحدثت عن عيوبي دون غيرها، ولم أتحول إلى نمر من ورق أو صوّرت للآخرين أنني كنت عنتراً يحمل سيفاً، بل لزمت حدودي تماماً وعرفت قدري جيداً وتجنبت الإساءة لغيري، بل واحتفظت بمعلومات لا داعي للخوض فيها إيماناً مني بأن ما يعرفه المرء قد لا يقال كله حتى لو جرى نشر جله! فهي معلومات تذهب مع صاحبها إلى قبره بدلاً من أن تكون إساءة لسواه، وكان على الذين انتقدوني أيضاً أن يدركوا أن الحاكم ملك شعبه لا أسرته وحدها، كما أنه شخص عام بالمعنى الكامل للكلمة، فهو ملك للتاريخ بدءًا من معاصريه وصولاً إلى الأجيال المقبلة، وقد حرصت في ما كتبت على أن أضع القارئ في ظروف كل حدث وجعلت الوقائع مجردة إلا من إطار البيئة السياسية في وقتها والمناخ العام الذي حدثت فيه، فقد بهرتني منذ مطلع شبابي “اعترافات” جان جاك روسو و”أيام” طه حسين وصراحة المهاتما غاندي حول حياته الشخصية، إضافة إلى ما كتبه المفكر الراحل لويس عوض في كتاب سيرته، خصوصاً ما جاء تحت عنوان “سنوات التكوين” وأزعجتني صراحة الفيلسوف الكبير عبد الرحمن بدوي وما كتبه الدكتور رؤوف عباس المؤرخ المعروف، فقد كسبا عداوات لا مبرر لها، ولقد نشرت الرأي والرأي الآخر ولم أتطاول على أحد إيماناً مني بأنه لا يصح إلا الصحيح، ولي هنا بعض الملاحظات:

أولاً: لقد جعلت من الحالة المصرية المادة الأساسية لرواية رحلة الزمان والمكان وانتقلت فيها من سنوات الطفولة إلى صدر الشباب ومن المدرسة إلى الجامعة ومن القاهرة إلى لندن ومن نيودلهي إلى فيينا، فكان حصاد العمر مزيجاً يعبّر عن التعددية التي لحقت بي منذ البداية، والذين يعرفون الواقع المصري جيداً يستمتعون أكثر من غيرهم بسطور الرواية وصفحاتها التي جاوزت الخمسمئة بعد الضغط الشديد والاختصار الممكن والحذف المطلوب، كما مزجت في صفحاتها بين التاريخ الشخصي الذي أحمله والواقع السياسي الذي عشته والطقس الثقافي الذي أحاط بي في مختلف المراحل.

ثانياً: تعرّضت للأوضاع العربية بصدق كامل وحذر شديد ونقلت مما رأيته أو سمعته ما يمكن أن يكون دليلاً استرشادياً للمتخصصين في الشؤون العربية والدراسات القومية، فكانت أحداث الخليج وغزو العراق للكويت نقطة تحوّل في سياسة مصر العربية بعد سنوات القطيعة التي سبّبتها اتفاقيات كامب ديفيد، كما أبرزت بوضوح آرائي الشخصية المباشرة في ما رأيته من الملوك والرؤساء والأمراء العرب وأين كانت مواقعهم من المشكلات والأزمات في العقود التي عاصرتها. ولقد خلصت بنتيجة مؤداها أن العمل العربي المشترك عانى ضربات قاصمة هي التي جعلته الآن مطمعاً لدول الجوار تركيا وإيران وإسرائيل ونالت كثيراً من تماسكه ووحدة كلمته، فكانت الجامعة العربية هي الضحية الأولى في ذلك، لأنها محصلة للإرادات الوطنية لكل قطر عربي وليست كياناً منفصلاً عن سواه، ولعل ذلك يفسّر محنة الجامعة في العقود الأخيرة والمحاولات الجادة التي سعى بها أمناؤها العامون إلى إنقاذها والحفاظ عليها، ولي شخصياً مع الجامعة العربية قصة تستحق الرواية ولكن ليس هذا مجالها الآن.

ثالثاً: لقد اعترفت من بداية سطور الرواية بأنني اخترت النموذج الأفقي في حياتي المهنية والفكرية، وضربت بسهم في كل من العمل الأكاديمي والدبلوماسي والبرلماني والإعلامي وعشت الحياة السياسية مشاركاً ومشاهداً. لقد نمت مشاعري الوطنية مع العصر الناصري واكتملت لدي عناصر الوعي السياسي في عصر السادات واقتربت من صانع القرار السياسي في عصر مبارك، لقد بهرتني كاريزما عبد الناصر كما تفهّمت جيداً رؤية السادات باعتباره رجل دولة من طراز فريد، كما أن توازنات مبارك كانت تروق لي أحياناً ولكن علاقته بعامل الزمن كانت تثير قلقي دائماً، ولقد قضيت أشهراً في القوات المسلحة مجنداً بعد نكسة يونيو (حزيران) 1967 وإن كنت قد درست في لندن الدكتوراه، فإن الهند كانت المدرسة الحقيقية لإدراكي لطبيعة العلاقات الدولية المعاصرة وما يتصل بها وما يدور فيها.

إنني لا أتحدث في السطور الماضية عن شأن خاص، ولا أقحم على القارئ أمراً يتصل بأحدث كتبي، ولكنني أردت فقط أن أطرح رؤية متواضعة لكتابة المذكرات والسير الذاتية بشكل موضوعي لا انحياز فيه ولا ادعاء، بل صدق وأمانة، فكل شيء يُغتفر إلا العبث بالتاريخ.