تأييد شعبي لاقتراح الراعي في انتظار بلورة سياسة بايدن في الإقليم
وليد شقير كاتب صحافي
يزداد الفرز السياسي وضوحاً في لبنان بين من يسمون أنفسهم “محور الممانعة” الذي يقوده “حزب الله” وفريق “السياديين” الذي تشكل منه تحالف قوى “14 آذار” في عام 2005، والذي وقف ضد الهيمنة السورية، بينما كان الفريق “الممانع” يسمى تحالف قوى “8 آذار”.
وأكثر الفرقاء الذين تزداد مواقفهم وضوحاً، في كل أسبوع أو محطة من محطات الأزمة السياسية في لبنان هو البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الذي يرتقي في كل مرة يدلي بدلوه حول ما يعانيه لبنان درجة جديدة في تحديده لأسباب المأزق وتوصيفه، فيؤشر إلى دور “حزب الله” فيه، كما حصل حين خاطب حشوداً أمت مقر البطريركية بعد ظهر السبت، 27 فبراير (شباط)، من أجل دعم موقفه رداً على حملة الحزب عليه بعد دعوته إلى مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة من أجل إنقاذ لبنان.
“لا تسكتوا عن الفساد وفوضى التحقيق في جريمة المرفأ، ولا عن السلاح غير الشرعي وغير اللبناني” (رويترز)
ولقيت مواقف الراعي تأييد جمهور احتشد في بكركي، لا يقتصر على المحازبين وأنصار حزبي “القوات اللبنانية” والكتائب، وغيرهم، بل شمل مجموعات مستقلة من انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، والناقمين على تردي الأوضاع المعيشية في البلد، ولا بد للدول الغربية والفاتيكان من أن تأخذ مستوى الدعم الشعبي الذي تلقاه الراعي، إضافة إلى السياسي، في الاعتبار في تعاطيها مع فكرة المؤتمر الدولي.
الراعي يتدرج في وضوح موقفه
قال الراعي في كلمة ألقاها في الحشود التي أمت باحة البطريركية في منطقة كسروان (جبل لبنان)، مؤيدة لمواقفه، “لا تسكتوا عن الفساد وفوضى التحقيق في جريمة المرفأ، ولا عن السلاح غير الشرعي وغير اللبناني، ولا عن سجن الأبرياء، ولا عن التوطين الفلسطيني ودمج النازحين، ولا عن مصادرة القرار الوطني، ولا عن الانقلاب على الدولة والنظام، ولا عن عدم تأليف حكومة وعدم إجراء الإصلاحات”، ومع أن الراعي لم يسمِّ “حزب الله” فإن إشارته إلى السلاح غير الشرعي لا تعني سواه، وكذلك حديثه عن “الانقلاب” و”الانحياز إلى محور إقليمي”، وعن وجود دولتين على أرض واحدة، كما أن رأس الكنيسة المارونية لم يوفر الفريق الحاكم من انتقاداته عندما رد على الحملة التي استهدفته، لا سيما من مناصري الحزب وقيادات شيعية مقربة منه، بالقول، “لو تمكنت الجماعة السياسية عندنا من إجراء حوار مسؤول لما طالبنا بتاتاً بمؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة يساعدنا على حل العقد التي تشل المؤسسات الدستورية”.
عون للبطريرك: لا أريد الحريري
وتفيد مصادر مطلعة على تفاصيل جهود الراعي مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كي يتفق مع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري على إنجاز الحكومة وإخراجها إلى النور، بأن إلحاحه على عون كان شديداً واستثنائياً إلى درجة اضطر معها الفريق الرئاسي إلى البوح له بأن رئيس الجمهورية لا يريد أن يكون الحريري رئيساً للحكومة على الرغم من اختيار أكثرية البرلمان له، وبالتالي يجب عدم توقع تغيير في موقفه من تأليف الحكومة والحصص، والثلث المعطل من الوزراء الذي يصر على الحصول عليه منفرداً.
وأوضحت المصادر لـ”اندبندنت عربية” أن رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل ونوابه اضطروا للموافقة على رئاسة الحريري للحكومة بسبب ضغوط “حزب الله” الذي يتمسك ببقاء زعيم تيار “المستقبل” على رأس الحكومة الجديدة تجنباً لتصاعد الحساسية السنية الشيعية، لكن باسيل الذي يريد أن تتشكل الحكومة وفقاً لمصالحه، رفض في المقابل وساطة لـ”حزب الله” بأنه مستعد للتفاهم معه على أن يشكل الوزراء الذين سيسميهم هو وعون، مع الوزيرين الشيعيين اللذين سيحسبان عليه، الثلث المعطل في المواضيع التي يهمه التوافق في شأنها داخل مجلس الوزراء سواء كانت تتعلق بتعيينات أو قرارات في بعض القطاعات، إلا أن جواب باسيل كان الإصرار على أن يحصل تياره على الثلث المعطل منفرداً من دون احتساب وزراء الحزب، لأنه يرغب في أن يتحكم بمجلس الوزراء من دون شراكة أي فريق ولو كان حليفاً.
هذه الوقائع زادت من استياء البطريرك الراعي، وسط قناعة في الوسط السياسي بأن “حزب الله” لو أراد لكان مارس ضغوطاً أكثر على حليفه باسيل كي يسهل ولادة الحكومة، وأنه يترك للأخير تعقيد التأليف بالنيابة عنه ثم يشكو من عدم نجاح ضغوطه عليه.
التلاعب بالوقائع “للاستيلاء على السلطة”
وفي كل الأحوال، يبقى التشاؤم من إمكان حدوث اختراق سياسي في جدار تعطيل الحكومة، غالباً على جهود حلحلة عملية اختيار الأسماء، ودليل بعض خصوم “حزب الله” على أنه يقف خلف هذه العرقلة أن الوسائل الإعلامية القريبة منه تتهم الحريري بأنه لا يريد تأليف الحكومة لأنه ينتظر موافقة السعودية على ذلك، ويؤجل اتفاقه مع عون على التشكيلة، نظراً إلى أنه يأمل برضا المملكة عنه، ويتبنى الإعلام الموالي لعون و”التيار الحر” ما يروجه إعلام الحزب في هذا الصدد، في وقت لا تتدخل الرياض في عملية التأليف وتأمل في قيام حكومة “قادرة” على أن تحقق ما يريده الشعب اللبناني من إصلاحات، بحسبما ينقل عن السفير السعودي في بيروت وليد البخاري.
وتعزز هذه الوقائع وغيرها قناعة بعض الفرقاء، ومنهم البطريركية، بأن هناك تلاعباً بعملية قيام الحكومة ما دفع الراعي إلى القول، “لم يتمكنوا من الجلوس على طاولة واحدة للتحاور وتيقناً أن كل ما طرح رفض لتبقى الفوضى، وتسقط الدولة، ويتم الاستيلاء على مقاليد السلطة”.
بين 2005 واليوم
كثرت التشبيهات في الأيام الماضية بين مرحلة عام 2005 واليوم، خصوصاً أن أحد مظاهر التشبيه هو موقف الكنيسة التي لطالما لعبت دوراً تاريخياً في صيانة الكيان اللبناني منذ تأسيس لبنان الكبير في عام 1920، لكن من دون أن يتبلور حلف سياسي واضح بين الجهتين كما حصل في حينها.
فأحد عوامل ما يسمى انتفاضة الاستقلال الثاني ضد النفوذ السوري عام 2005، هو موقف البطريرك الماروني الراحل الكاردينال نصر الله صفير، الذي حافظ على ثباته من دون أي مساومة منذ عام 2000، بمطالبته بالانسحاب السوري حتى تضافرت عوامل عدة داخلية وخارجية لم تخلُ من المأساوية (سلسلة الاغتيالات بدءاً بالرئيس الراحل رفيق الحريري)، أدت إلى تحقيق هذا المطلب، واليوم يقف البطريرك الراعي منذ زهاء ثمانية أشهر داعياً إلى حياد لبنان عن حروب وصراعات المنطقة، ما يعني وضع حد لتدخلات “حزب الله” في الدول العربية وفق الأجندة الإيرانية، الأمر غير الممكن من دون تعطيل سلاحه ومن دون سيطرة الدولة على حدود البلد مع سوريا وسائر المنافذ، ووقف التحكم في المعادلة داخل السلطة.
في عام 2005 نجح صفير الذي سمي بطريرك الاستقلال، في تحقيق هدفه نتيجة عمل تراكمي لم يكن يجاريه فيه بعض القادة السياسيين، الذين عادوا فانضموا إلى رفضه السطوة السورية على القرار اللبناني.
مزيد من القيادات تنضم لموقف الراعي
بدأ انضمام قيادات لبنانية وازنة إلى وجهة نظر البطريرك الراعي في الأسابيع الماضية يأخذ أبعاداً جديدة بعد استنفاده محاولات إخراج لبنان من الفراغ الحكومي الذي يحول من دون استدراك الأزمة المالية الاقتصادية الخانقة التي تنذر بالانهيار الكامل، وإذا كان من الطبيعي أن يواكب حزب “القوات اللبنانية” ورئيسه سمير جعجع كلام الراعي، وكذلك حزب “الكتائب” برئاسة سامي الجميل، و”لقاء سيدة الجبل” وأحزاب مسيحية أخرى وشخصيات سياسية مستقلة ورموز من انتفاضة “17 تشرين”، ويؤيدون مواقف الراعي، فإن الحملة ضده بسبب دعوته إلى المؤتمر الدولي زادت من التضامن مع البطريرك.
وهي بلغت حد التخوين من قبل الجيش الإلكتروني الموالي للحزب على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنه يرمي إلى وضع لبنان تحت الفصل السابع (يتيح استخدام القوة من قبل قوات أممية على أرض الدولة المعنية)، كما لمح الأمين العام للحزب حسن نصر الله، الذي قال إن تدويل الأزمة يؤدي إلى الخراب والحرب، لكن الراعي أبلغ من التقاه بأنه لم يفكر للحظة في ذلك. وجاهر رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بالوقوف مع الراعي إضافة إلى قيادات إسلامية أخرى مثل رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة ونواب من كتلة “المستقبل”، وكان رد فعل الأوساط الكنسية المسيحية عنيفاً حيال التهجم على البطريرك، وتصاعد التعاطف مع موقفه على الصعيد الشعبي، في شكل دفع “التيار الحر” إلى إرسال وفد نيابي لزيارته ونفي أخبار الخلاف معه.
اختلاف الظروف
ما يختلف عن عام 2005 أن تلاقي كل هذه القوى مع البطريركية لم يرتقِ إلى مستوى تكوين جبهة بينها، كما أن المطروح هو إنقاذ الوضعين المالي والاقتصادي في لبنان كأولوية عند كل الفرقاء المحليين والخارجيين، والذي يصيب اللبنانيين كافة، في ظل إنكار كامل من قبل فريق الرئاسة، ومسايرة “حزب الله” له، بينما القضية الخلافية التي تصدرت المشكلة مع الوصاية السورية في عام 2005 كانت رفض القوى السيادية فرض دمشق التمديد للرئيس إميل لحود في حينها، في إطار وضعها اليد على القرار السياسي بالكامل.
لكن الفارق الأكثر تأثيراً على الصعيد الخارجي في الحالة الراهنة يكمن في أن الموقف الدولي حيال لبنان يستند إلى الاهتمام الفرنسي فقط، وعلى الرغم من تأييد سائر العواصم الكبرى لمبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، فإن الموقف في الشرق الأوسط ولبنان ينتظر توجهات إدارة الرئيس جو بايدن، التي لم تكتمل معالمها بعد، لا سيما حيال إيران والتفاوض معها، وفق المعطيات الواردة من العواصم الأوروبية ومن موسكو، بحيث يتطلب الأمر بعض الوقت قبل أن يتبلور الموقف الدولي من اقتراح الراعي في شأن اقتراحه حول المؤتمر الدولي لإنقاذ لبنان.
والوضع الإقليمي يتأرجح بين حصول تصعيد عسكري هنا وإشارات تهدئة وتفاوض هناك، ما يغلِّب الترقب على أي توجه حاسم.