الجزائر: الصيادون والسردين والصلاة


كل من يركب البحر يخفي سراً عزيزاً غالياً

أمين الزاوي كاتب ومفكر


تملك الجزائر شريطاً ساحلياً بطول 1400 كيلومتر، ساحل استثنائي مطل على البحر المتوسط، بحر الأسماك والخيرات البحرية، وسمك السردين، وجبة الفقراء والقطط الضائعة الضالة، قد وصل سعره إلى 1400 دينار جزائري، وهو سعر خيالي؟

مضى زمن، ذاك الزمن الجميل، الذي كان يخرج فيه الصيادون عند العشيات مهما تغيرت الفصول، يركبون البحر ولا يملكون إلا زوادة جلدية وقلباً خافقاً على مركب بسيط “يجغجغ” لوحه، لكنهم كانوا فقهاء في علم الأمواج، نحاة في علم لغة اللون الأزرق على البحر أو على السماء التي فوق رؤوسهم، يدركون علم الحديث إلى الريح يحوّلون اتجاهها كيف ما أرادوا، بقدرة قادر، لم يدخلوا مدارس فنية ولكنهم كانوا يحسنون الغناء الذي يدفع عنهم الخوف، ويلبسون لباس أمراء الأغنية الشعبية الجزائرية: اعمر الزاهي ومحمد الباجي وعبد المجيد مسكود، لباسهم عبارة عن طقم كتان بروليتاري أزرق اللون فوق كنزة مخططة وابتسامة عريضة كابتسامة الملوك. 

كل صياد يركب البحر إلا وهو يخفي سراً عزيزاً غالياً: قصة حب لامرأة تنتظر عودته جالسة على جمر الوقت فوق حَجَر الصبر. من يجلس على حجر أشد عذاباً مِمَّنْ يحملها.

كان الصيادون القدامى، بشارة خير، يحبون النساء والنبيذ والموسيقى ويعشقون الله، وكان الله، في هذا الزمن الجميل، يحب الصيادين القدامى ويحفظهم من كل مكروه قد يهدّد حياتهم أو يفقر شباكهم. كان صيادو الزمن الجميل يتقنون فن الحياة، يحظون دائماً بالاحترام في الحي، من أبناء الحي جميعهم الصغار والكبار، الرجال والنساء. لم يكونوا ليخونوا الله ولا الرجال ولا الوطن ولا البحر. كانوا فوق مراكبهم البسيطة أو على اليابسة رمزاً للخير والعافية والأمل.

ساعة عودتهم إلى أرض الله اليابسة، فجراً، كانت مراكب الصيادين البسيطة تعود مليئة بالأسماك وبالبركة، ومحمّلة أيضاً بعشرات الحكايات الجميلة وقوداً لسهرات الحي والعائلة وحديث الأسواق الشعبية، في عودتهم يحتفل الجميع بالسردين، أكلة الفقراء اليومية والقطط الضالة، قطط المدينة تنتظر بائع السردين المتجول، تعرف صوته من بعيد، فتمشي خلفة ليلقّمها بين الفينة والأخرى حبة سردين ثم أخرى، تدور بصحبته الحي كله، تموء وهو يغني وينادي على سلعته، فتنزل النساء بصحونهن الفارغة لاقتناء السردين في وقت محدد، قبل الساعة الحادية عشرة. كانت البركة عامرة والبحر سخيّاً مع الصيادين القدامى.

ما العمل يا تُرى؟

نعم، تملك الجزائر شريطاً ساحلياً بطول 1400 كيلومتر، ساحل استثنائي مطل على البحر المتوسط، بحر الأسماك والخيرات البحرية والغلال، وسمك السردين، وجبة الفقراء والقطط الضائعة الضالة، قد وصل سعره إلى 1400 دينار جزائري، وهو سعر خيالي؟

اليوم، في هذا الزمن الغريب، ينزل الصيادون إلى البحر بعد أداء صلاة العشاء، وفي عرض البحر لا تفوتهم صلاة واحدة، يؤدونها جماعياً على متن مراكبهم المجهزة بالتكنولوجيا والهواتف النقالة. مراكبهم لا تقارن بمراكب صيادي الزمن الجميل.

كل شيء تغيّر على الرغم من أن لا شيء تغيّر، إذاً ما السبب؟

البحر لم يغيّر مكانه، لم ينقص من طوله ولا من عمقه، الماء لم يخن نسبة الملح فيه، والأمواج على رقصتها العريقة دائماً بين العنيفة طوراً والمُهَدْهِدَة تارة أخرى، والميناء لم يهرب من رصيفه، والمدينة مدينة الجزائر، أو “آلجي” كما يسميها العامة، لم تخرج من أسوار المدينة ولا من لغتها، كل شيء في مكانه، حتى أيام الأسبوع هي أيام الأسبوع لا تزال سبعة، حتى لو أننا أَسْلَمْنا عطلة نهاية الأسبوع غيّرناها من يوم الأحد إلى الجمعة.

من بين الصيادين، صيادو اليوم، منهم مَنْ كانوا في الجبل أيام سنوات الجمر، سنوات التسعينيات أو العشرية الدموية، كانوا في جبهة الإرهاب، وباعتبارهم من التائبين، فقد استفادوا من قوانين المصالحة الوطنية، وبهذه القوانين تحصّلوا على قروض مغرية من دون فائدة من البنوك الجزائرية، من أموال الشعب، وبهذه القروض اشتروا مراكبهم المجهزة تجهيزاً تكنولوجياً عالياً، مراكب من ماركات إنجليزية أو إيطالية أو سويدية أو اسكندينافية أو إسبانية.

وحين حلّت الحملة الانتخابية للعهدة الرابعة للرئيس المخلوع لاحقاً، أمر بمحو الديون عنهم، وكأن الأموال التي في البنوك الجزائرية هي أموال في جيب سرواله، يتصرف فيها كما يهوى ويحلو له، يدخل يده ثم يخرجها ويوزع باسم الانتخابات أو باسم التوبة على التائبين الذين ما تابوا.

صيادونا اليوم، لا يشربون نبيذاً ولا بيرة وذاك اختيارهم، لا يسمعون أغاني الراي على المركب المجهز تجهيزاً تكنولوجياً، يفضلون الاستماع إلى قراءة القرآن بصوت الشيخ المقرئ عبد الباسط عبد الصمد وذاك ذوقهم.

لكن صيادينا اليوم، حتى بمراكبهم المجهزة تجهيزاً وبصلواتهم التي لا تنقطع يعودون عند الفجر فارغي اليدين، لا سمك السردين، أكلة الفقراء ولا أنواع الأسماك الأخرى في حمولتهم، العائلات الفقيرة لا تستطيع شراء كليوغراماً واحداً من السردين اليوم، والقطط ما عادت تمشي وتدور أزقة الحي في أثر البائع الجوال الذي يطعمها حبة فحبة، سردينة فسردينة… ويغني وتموء فرحاً.

لكن لماذا يا تُرى كان صيادونا القدامى، صيادو الزمن الجميل، الذين يحبون الله والنبيذ والنساء والمدن، يعودون كل فجر بحمولات السردين أكلة الفقراء والقطط الضالة، وأنواع الأسماك الأخرى الكثيرة، فيفرح الحي وتفرح المدينة.

ما العمل يا تُرى؟

نعم، تملك الجزائر شريطاً ساحلياً بطول 1400 كيلومتر، ساحل استثنائي مطل على البحر المتوسط، بحر الأسماك والخيرات البحرية والغلال، وسمك السردين، وجبة الفقراء والقطط الضائعة الضالة، قد وصل سعره إلى 1400 دينار جزائري، وهو سعر خيالي؟
الصيد فن وحسن تدبير ومعرفة بالبحر وخيراته، وذلك هو الفرق بين صيادي البارحة وصيادي اليوم.