الرسائل تتطاير في أجواء المشرق


أنعش الحديث عن بند سري لصفقة تبادل الأسرى الكلام عن التأسيس لتطبيع رسمي بين سوريا وإسرائيل

طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني

لم تكد إسرائيل تنهي مناوراتها استعداداً لحرب محتملة على الجبهة الشمالية، حتى أعلن على عجل عن إنجاز صفقة تبادل للأسرى بينها وبين النظام السوري، يمكن تصنيفها بالأغرب والأسرع من نوعها، لجهة مسارها ونتائجها والمدة الزمنية لإنجازها. فالهدف الإسرائيلي منها كان استرجاع مستوطنة إسرائيلية عبرت الشريط الفاصل في الجولان نحو القنيطرة في 2 فبراير (شباط) الحالي. والهدف السوري المعلن استرجاع أسيرين أضيف إليهما راعيان في وقت لاحق، غير أن بنداً سرياً جرى الكشف عنه أظهر أن الصفقة ذهبت أبعد من مجرد تبادل عادي. 

ويتضمن هذا البند دفع إسرائيل 102 مليون دولار لروسيا ثمناً لجرعات من لقاح “سبوتنيك في” سترسل إلى النظام في سوريا. 

وقد نفى النظام هذه الواقعة، إلا أن إشارة في صحيفة روسية أظهرت هشاشة مكونات الصفقة في موازاة “بندها السري”، الذي سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشره بعد استئذان موسكو. والهشاشة اختصرها إيغور سوبوتين في “نيزافيسيمايا غازيتا” عندما كتب في 19 فبراير “تبين أن عملية تبادل الأسرى التي تولت فيها روسيا دور الوساطة، عقدها الأسرى أنفسهم. فبعد تناهي خبر إجراء المفاوضات ذات الصلة وزيارة الوفد الإسرائيلي إلى موسكو، ترددت أنباء في الصحف عن أن الأسيرين السوريين لا يريدان العودة إلى دمشق”، واشترطا البقاء في منزليهما بالجولان المحتل! وفعلاً حدث ذلك، ورفض ساكنا معتقل النقب الانتقال إلى “حضن الوطن” الذي يقوده بشار الأسد.

أنعش الحديث عن بند سري الكلام عن التأسيس لسلام بين دمشق وإسرائيل. ومثل هذا الكلام يتكرر بين وقت وآخر، ويجري ربطه بصفقة أميركية روسية حول مستقبل سوريا، غير أن موسكو تفضل الحديث عن المساهمات الإنسانية مثل تبادل الأسرى والجثث، وحتى دبابة معركة السلطان يعقوب، التي استولى عليها السوريون في معركة مع الإسرائيليين خلال غزوهم لبنان عام 1982، ثم نقلت إلى موسكو ليعيدها الروس إلى تل أبيب في مراسم رسمية. 

والحقيقة أنه قبل الإعلان عن التبادل الأخير كان الحديث يدور عن نبش مقابر في مخيم اليرموك الدمشقي بحثاً عن بقايا جنديين إسرائيليين قتلا في معركة السلطان إياها. والبعض أضاف احتمال البحث عن الطيار رون أراد والجاسوس الشهير إيلي كوهين، الذي ستكون إعادة بقاياه إلى إسرائيل ذروة التدخل الروسي الإنساني في تنعيم طريق العلاقات بين النظامين اللدودين.

كان مثيراً للاهتمام انخراط موسكو ودمشق وتل أبيب في مهمة “الإنقاذ الإنساني” في لحظة إعادة الإدارة الأميركية الجديدة النظر في سياسة الإدارة السابقة تجاه الشرق الأوسط. وتجلت إعادة النظر في تجاهل الرئيس جو بايدن التشاور مع الحلفاء التقليديين لأميركا في المنطقة، بمن فيهم الشريك الأمني والسياسي الأول بنيامين نتنياهو، الذي اتصل به بعد شهر من توليه المنصب. 

وفي الموازاة، ألغى بايدن تصنيف الحوثيين كتنظيم إرهابي، ودعا إلى سلام في اليمن لم تتضح سبل تحققه، ثم أبلغ مجلس الأمن التخلي عن المطالبة بعقوبات تفرضها الأمم المتحدة على إيران، وأعلن استعداده للجلوس معها في إطار مجموعة “5+1” للبحث في الاتفاق النووي. 

دخلت المنطقة بأكملها في حالة من عدم اليقين، وسارع اللاعبون إلى محاولة تعزيز مراكزهم في انتظار الجولة المقبلة. 

سعت جماعة الحوثي بدعم إيراني صريح للاستفادة من الظروف المحيطة دعماً لمطالبها وتحصيناً للمفاوض الإيراني، فزادت من حجم اعتداءاتها ضد السعودية، وحاولت السيطرة في معركة دموية على مأرب ومحيطها. وفي العراق، كررت الميليشيات المرتبطة بإيران هجماتها على مواقع تضم عناصر من القوات الأميركية، وفي هجومها الثاني على مطار أربيل استهدفت أيضاً تطويع المكون الكردي الذي يتمسك بالحضور الدولي في العراق ويوفر حداً أدنى من توازن السلطة فيه. رغم أن أيا من الميليشيات الرئيسة في العراق لم تتبن الهجوم.

وفي لبنان، حيث تمسك إيران بمفاصل السلطة ومواقع الرئاسات الثلاث، كان القرار تجميد الأمور على تأزمها، من دون الاستجابة للمبادرة الفرنسية، ومنع أي شكل من أشكال عودة المؤسسات إلى عملها في حماية الدولة الشرعية.

شكلت الوساطة الروسية بين النظام السوري وإسرائيل خرقاً لهذا المشهد العام. ويستحيل أن تكون إيران جاهلة لما يحدث، كذلك تركيا. فالدولتان كانتا إلى جانب موسكو في اجتماعات سوتشي (مجموعة أستانا)، حيث تمسكت طهران ووفد الأسد بإجراء الانتخابات الرئاسية في سوريا في الربيع المقبل بمعزل عن نتائج عمل اللجنة الدستورية. وفي حين تسعى روسيا إلى تسويق رعايتها لعمل اللجنة وتحرص على إنجاحه كما تقول، يتيح الغياب الأميركي والغربي فرصاً أكبر لإيران في المقايضة. 

وسيصبح بقاء الأسد في منصبه مكسباً مشتركاً لموسكو وطهران، برعاية ضمنية من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين تسعيان منذ أكثر من عامين، بوسائل مختلفة، منها العمل مع روسيا، إلى ضبط النفوذ الإيراني في سوريا.

يبدو استمرار نظام الأسد شرطاً أساسياً لاحتفاظ إيران بنفوذ ما في سوريا، وتدرك طهران ذلك بالتجربة الحية. فإسرائيل التي قصفت نحو 50 هدفاً إيرانياً في هذا البلد خلال العام الماضي، ونفذت 1400 طلعة جوية عملياتية، لم تكن قادرة على حرية التحرك هذه من دون موافقة روسية. وعشية عملية التبادل الأخيرة حرصت على الإعلان بلسان مراسل الشؤون العسكرية للقناة العامة الإسرائيلية “كان 11” أنه “خلافاً للتقارير الروسية (التي واكبت حديث الصفقة)، فإن إسرائيل لا تعتزم تقليص حجم هجماتها في سوريا ضد محاولات إيران التموضع عسكرياً هناك”. والرسالة نفسها أرسلت إلى حلفاء طهران في بيروت، عبر مناورات بمختلف أنواع الأسلحة قالت “جيروزاليم بوست” في ختامها، في 17 فبراير، إن الطيران الحربي الإسرائيلي تدرب على ضرب ثلاثة آلاف هدف لـ”حزب الله” في 24 ساعة، وذلك خلال 60 ساعة متواصلة من العمليات!

ورد “حزب الله” بخطاب لأمينه العام حسن نصر الله متوعداً بضرب المواقع والمدن الإسرائيلية في حال تعرضت مواقعه الحزبية للهجوم في لبنان، في فصل واضح بين المعركة المفتوحة في سوريا وحاجات استثمار النفوذ في لبنان.

لم يمضِ شهر على تولي بايدن السلطة رسمياً حتى تطايرت الرسائل في كل اتجاهات المشرق والعالم. والمهم في كل ذلك، أن تترجم واشنطن التزاماتها “الأخلاقية” في حلول قابلة للعيش، وتحظى بضمانات من الشركاء الدوليين. فليس التغيير نسفاً لنهج رئيس سابق فحسب، وإنما فتح لمسالك جديدة، حتى الآن لم تتضح طبيعتها.