كتب حسين الرواشدة
الرسالة التي وجهها جلالة الملك الى مدير المخابرات العامة يمكن ان تفهم في ثلاثة سياقات، الأول سياق «المراجعات» المفصلية لأداء مؤسسات الدولة، والثاني سياق «الاستحقاقات» التي تقتضيها اللحظة التاريخية المتعلقة بمرور مائة عام على تأسيس الدولة، والثالث سياق «تصحيح» المسارات الذي تستدعيه التحولات والظروف الداخلية والخارجية، سواء بهدف «التكيف» أو التحديث والتطوير، أو ترسيم العلاقات بين المؤسسات تمهيداً للدخول الى المرحلة الجديدة.حين ندقق في الرسالة اكثر، نجد انها كانت صريحة ومباشرة ومزدحمة بالتفاصيل، كما انها تحمل إشارات من جانب للإنجازات التي تنهض بها هذه المؤسسة الوطنية المهمة، ومن جانب آخر الى بعض «الأدوار» التي تحملتها لملء الفراغ الذي تركته مؤسسات أخرى لم يكتمل نضجها، نجد ثانياً ان الرسالة أعادت المؤسسة الى المهمة الأساسية التي تأسست للقيام بها، وهي مهمة «أمنية» تتعلق بتعزيز الأمن الوطني أولا ثم « مدّ الدولة بالمعلومات والتقييمات الاستخباراتية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية» ، وهنا اشارت الرسالة بشكل محدد الى ان «قضايا الاستثمار وشرعية مصادر التمويل» أصبحت منوطة بمؤسسات قائمة ترسخ النزاهة وتحارب الفساد، وبالتالي فإن هذه المؤسسات ستتولى القيام بواجبها بدون ابطاء.لدي عدة ملاحظات على هامش الرسالة الملكية، الأولى هي ان هذه المؤسسة الوطنية (المخابرات) شكلت على مدى نحو ستين عاماً «صمّام» أمان وطني، وكانت بمثابة «عقل» الدولة الذي حافظ على حالة التوازن وضبط إيقاع المعادلات الوطنية، كما انها كانت «المرجعية» الأساسية المرشدة لصناع القرار ومتخذيه، وبالتالي فإد دعم حضورها كان وما يزال ضرورة وطنية ومصدر اعتزاز لكافة الأردنيين.الملاحظة الثانية هي ان «ترسيم» العلاقة بين أدوار المؤسسات الأمنية والسياسية والاقتصادية يفترض ان يتم في اطار ترسيخ «الاتصال» والتنسيق والتكامل وتقاسم الأدوار وفق التخصصات، لا في اطار «الانفصال» او العمل الانفرادي، وهذا ما أشارت اليه الرسالة الملكية بوضوح.اما الملاحظة الثالثة فهي أن الرسالة توجهت الى مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والرقابية بضرورة القيام بواجباتها وتطوير أدائها والعمل ضمن اختصاصاتها الدستورية والقانونية، وهذا يشكل انتصاراً لمنطق «المؤسسية» الذي يفترض ان يدشن مرحلة المئوية الثانية للدولة، اذ ما وضعنا في عين الاعتبار «استحقاقات» التحول الديمقراطي الذي لا يمكن ان يسير الّا على سكة «المؤسسات» التي تعرف أدوارها وتتناغم في أدائها.تبقى ملاحظة رابعة وهي ان الرسالة الملكية توجهت للداخل الأردني من اجل تطمينه على مستقبل بلده أولاً، وعلى أداء مؤسسات دولته ثانياً، وهذا «التطمين» يأتي في سياق ضرورة المراجعات وتقويم الأداء وتصحيح ما حدث من خلل في اطار «الاضطرارات» لتجاوزه، كما يأتي في سياق الاستجابة لجملة من التحولات الداخلية والخارجية، التي تستدعي مصارحة الأردنيين بما جرى وبما سيجري وذلك لحسم الأسئلة المتعلقة حول العديد من القضايا التي توجهت لها النقاشات العامة في العشر سنوات المنصرفة، بإجابات واضحة.باختصار، ربما تشكل الرسالة الملكية لمدير المخابرات «انعطافة» مهمة في سياق تحديد ملامح المرحلة المقبلة، وهذا يتوقف على قدرة المؤسسات المعنية بالتقاط ما تضمنته من «جمل» سياسية، كما يتوقف على قدرة المجتمع بقواه المختلفة على التعامل معها ك «مانيفستو» ( بيان) ملكي لتدشين مرحلة «اصلاح» وطني شامل يأخذ بلدنا الى مئويته الثانية بخطى واثقة نحو مزيد من الاستقرار والازدهار.