كيف يمكن تحرير العلاقة الجزائرية – الفرنسية من شحن الأيديولوجيا؟


“تتكتل البلدان اليوم اقتصاديا وثقافيا وسياسيا وعسكريا، ولا مكان للذئب المعزول في عالم اليوم”

أمين الزاوي كاتب ومفكر 

على الضفتين، كثر الحديث والنقاش حول فحوى التقرير الذي قدمه الباحث الفرنسي قسنطيني المولد (من مواليد مدينة قسنطينة الجزائرية) بنجامين سطورا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان كلفه بكتابته لمعالجة موضوع الذاكرة أو بالأحرى “الذاكرات” المشتركة بين فرنسا والجزائر. وتضمن التقرير رؤية الباحث لأشكال المصالحة بين الذاكرتين، الجزائرية والفرنسية، وذلك بغية التأسيس لمستقبل “ذاكراتي” جديد مشترك ومثمر للبلدين.
وأول ما ميز هذا النقاش هو طغيان ظاهرة التعصب والتشنج الأيديولوجيَين، كما أن كثيرين ممَن دخلوا ساحة النقاش لم يطلعوا على التقرير أصلاً، وبالتالي انطلقوا من أحكام جاهزة مقبلة من خارج النص، هي نتاج قراءة “النية المسبقة”. وأطلق البعض ناره على المؤرخ سطورا وهو المتخصص في تاريخ الجزائر، لا لشيء إلا لأنه يهودي، وكأنه بصفته هذه لا يمكنه أن يكون إلا ضد الجزائر، وظلت النقاشات جميعها متمركزة أساساً حول فكرة “الاعتذار”.

فإذا كان البرلمان الفرنسي أصدر مشروعه العنصري الذي سُمي قانون “تمجيد الاستعمار” في 23 فبراير (شباط) 2005، فإن البرلمان الجزائري، وعلى الرغم من التهديد ضد فرنسا الاستعمارية بإصدار قانون “تجريم الاستعمار”، وهذا الوعيد جارٍ منذ عشرات السنين ولا يزال حتى الآن، بل منذ أول برلمان جزائري، إلا أنه لم يستطع أن يصدر مثل القانون حتى الآن.
بعيداً عن هذا التشنج الأيديولوجي، وهذا الغرق الدائم في الماضي الأليم، كيف يمكننا أن نتصور حواراً فرنكو- جزائرياً هادئاً وحكيماً يكون قادراً على التحرر من ضغط الأيديولوجيا، وقادراً على الذهاب في مشروع علاقة سياسية واقتصادية وثقافية تعود بالخير على الشعبين؟ بخاصة وأن جيل الذي صنع هذا الماضي الأليم قد انتهى أو يكاد، وأن الأجيال الجديدة تريد أن تعيش في انسجام وتبادل محترم على الضفتين وفي البلدين اللذَين ليس لهما من خيار سوى الاستماع لبعضهما البعض وإرساء الشراكة الباحثة عن الخير والسلام والإنتاج. 

حين نتأمل راهن “جزائر اليوم”، يمكننا الحديث مطولاً وبإسهاب عن سوء التسيير، عن الفساد، عن غياب الديمقراطية، عن قمع الحريات الفردية والجماعية، لكن لا أحد يشكك في استقلال الجزائر، سواء من الجزائريين أو من الفرنسيين، فقد قُضِيَ الأمرُ، وطُويت صفحة الاستعمار، ورُفع العلم وعُزف النشيد الوطني. في كل حرب هناك منتصر ومهزوم، ولا أحد يشكك في هزيمة فرنسا في هذه الحرب، ولا أحد يشكك في انتصار الجزائريين فيها، ولكن بعد 60 سنة من نهايتها، يجب على الطرفين، من الأجيال الصاعدة، وقد تأخر الوقت كثيراً، الذهاب في رسم علاقة جديدة بعيداً عن ذاكرة الحرب، وبالقرب من الحياة وجمال المستقبل في السياسة والاقتصاد والثقافة والعلم.
على الجميع أن يجلس على مسافة من ذاكرة الحرب البشعة، دون نسيانها، إلا أنه من دون التحرر من هذه الذاكرة يستحيل بناء مستقبل مشترك، فعلى الرغم مما وقع بين فرنسا وألمانيا من حروب ودمار لكنهما استطاعتا، انطلاقاً من إيمان نظاميهما بضرورة العمل من أجل رفاهية شعبيهما، أن تقفزا فوق ذلك الخراب والدم وتصنعا مستقبلاً مشتركاً جميلاً، بل وحدة في التراب والعملة والسياسة الخارجية.
أعتقد شخصياً أن هناك كثيراً من تجار الخطب “الثورجية”، ومَن يدخل هذه السوق ويبيع مثل هذه السلع لا يريد خيراً للبلاد، بل يريدها أن تظل في مربع الماضي كما يفهمه هو، الماضي البديل عن الحاضر وعن المستقبل. تستهلك الجمل الفضفاضة بديلاً عن إقامة المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة.
علينا كجزائريين أن نتحرر من الماضي من دون أن نطلّقه، أن نقرأه جيداً كي نتجاوزه بكل احترام وتقدير، علينا أن نتحرر من خطابات السبعينيات من دون أن نفقد الحس الوطني والافتخار بالوطن الذي نريده جديداً وإيجابياً، وعلى الفرنسيين أيضاً التحرر من عقدة أفكار “الجبهة الوطنية” المتطرفة والعنصرية.
علينا أن ننظر إلى المستقبل، فالشهداء الذين ضحوا بأنفسهم، كانوا يريدون لهم ولأبنائهم بلاداً كبلاد أعدائهم، جميلة ومرتبة ومنظمة ومتطورة. كانوا يريدون أن تكون الجزائر كفرنسا العدوة، في التعليم والاقتصاد والصحة والثقافة والفلاحة. الجزائري لا يعتاش من “الأيديولوجيا” خبزاً، المعارك التي خاضها الشهداء والثوار، خاضوها لتكون طريقاً معبداً يوصل الأجيال الجديدة إلى حياة الكرامة، والكرامة ليست كلاماً فضفاضاً وخطباً سياسية لغسيل الأدمغة. الكرامة هي “توفر العمل، والتعليم، والصحة، والفن، والحرية، والديمقراطية، توفير الرفاهية”.
علينا أن نعرف الدرس التالي ونحفظه جيداً “كل عدو مهما كانت شراسته وهمجيته فهو مشروع صديق مستقبلي، ربما، وكل صديق مهما كانت شفافيته وصدقه فهو مشروع عدو، ربما”. الأمور ليست محسومة على المستوى الفلسفي كما على المستوى السياسي، لذا علينا أن نتحلى بالشجاعة السياسية كي نذهب بالبلد بعيداً، أن نبحث عن ملامح الصديق في عدو البارحة، وهذا لا يعني أننا ضيعنا قيمنا، بل يعني أننا نقوم بمراجعات وقراءات بحسب الظروف التاريخية وبحسب متطلبات الأجيال الجديدة التي تفكر وتحلم بمنطق غير منطق الآباء والأجداد. وهذا الاختلاف لا يعني الخيانة، بل هي حالة إنسانية ثابتة وعامة وهو منطق التاريخ.    

تتكتل البلدان اليوم اقتصادياً وثقافياً وسياسياً وعسكرياً، لا مكان للذئب المعزول في عالم اليوم، عالم لا يرحم. تتكتل البلدان وتتحالف لكي تضمن الأمن لأجيالها، الأمن في العمل والعلم والصحة والرفاهية والحياة الكريمة، والجزائر مجبرة كغيرها أن تبحث عن شركاء يرافقونها وترافقهم في مسيرة التنمية والمعافاة، بعيداً عن المزايدات الأيديولوجية، ويبدو أن من بين الشركاء، الأقرب إلينا فرنسا، التي بيننا وبينها علاقة استثنائية مطبوعة بالكراهية والحب في الوقت نفسه، حالة ما بين الرفض والقبول، وهي حالة سيكو-سياسية مقبلة من مخلفات المأساة ومن مخلفات الخطابات حول المأساة، أنتجتها الطبقات السياسية على الضفتين على مدى 50 سنة أو أكثر. ومع ذلك يمكننا أن نفتح أفقاً جميلاً، إذا ما عرفنا كيف نستثمر فيما يجمع بين البلدين وينفعهما، بعيداً عن أمراض الأيديولوجيا، من رأسمال بشري مشترك، إذ يعيش أكثر من خمسة ملايين جزائري في فرنسا، من بينهم آلاف الإطارات المتواجدة في مفاصل الحياة الاقتصادية والصحية والثقافية والسياسية في فرنسا، فعلينا استغلال هذه الثروة البشرية المنتجة وهذه العبقرية لمد جسر لمستقبل مشترك نافع ومُجْدٍ للبلدين وللشعبين. كما أن بيننا ثقافة مشتركة، ولغة مشتركة، حتى وإن تراجعت إلا أنها لا تزال حاضرة بتميز.

علينا أن ننظر إلى وجودنا بتأملنا في مرآتنا أولاً، مرآة يجب أن تكون صادقة وصافية، متخلصة من الأيديولوجيا المرضية التي لا تفرخ سوى الوهم والكراهية بين الشعوب. لقد انتهى عصر اللعب على ذقون الجيل الجديد الذي يريد العيش الكريم، سواء هنا أو هناك، جيل يريد أن ينتهي من أخبار محنة “قوارب الموت”، وأن يعيش على “قوارب النصر” والأفراح. الفاسدون فقط هم مَن يريدون أن يطعموا أبناء الشعب “أيديولوجيا”، بينما يطعمون أبناءهم عسلاً في ملاعق من ذهب.
إن العلاقة مع الآخر، مهما كان هذا الآخر، ولو كان عدو البارحة، عليها أن تبدأ من تصفية بيتنا وترتيبه ترتيباً جدياً، فبيتنا مفكك ومشتت، وكثيرون من أبنائه يريدون له أن يظل هكذا في فوضى كي يستفيدوا وكي يسهل لهم التمتع بعسله والاستمرار في استغباء العامة أيديولوجياً.

علينا أن نختار شركاءنا بشجاعة وبوضوح وبأولوية المصلحة الوطنية العامة، بعيداً عن النوستالجيا والرومانسيات الثوروية التي تعزلنا خارج التاريخ، وتضعنا في مربع الذئب المعزول. ويكفينا أن نتأمل مسيرة التنمية التي تخوضها بعض البلدان التي لا تملك ما تملكه الجزائر، وكنموذج عن ذلك، بلدان الخليج التي اختارت حلفاءها واختارت الانخراط في العالمية بمنطق الربح المشترك، والدفاع عن رفاهية المواطن، على مبدأ الدفاع النفع المشترك. إن ما بين الجزائر وفرنسا ليس فقط العنف والموت والدم، فهذا معروف وهو جزء من تراثنا المشترك ويجب تحمل مسؤوليته، ولكن بيننا مشتركات أخرى، يمكن وضعها في مقدمات التفكير في بناء مستقبل الأجيال المقبلة.
وإذا أردنا أن نهيئ فضاء للحوار والبناء المشترك بين الجزائر وفرنسا، بما ينفع الطرفين، فعلينا ألا نجعل الخطاب السياسي الأيديولوجي هو الفاتحة، بل علينا أن نبدأ بما لا يثير الجدل ولا يوقظ الأيديولوجيا المريضة، علينا أن نبدأ من بوابة التعاون في مجالات تقنية وفنية وسياحية، كالبحث العلمي، والتكوين والثقافة والسياحة والفلاحة، وهي ميادين فيها كثير من المشترك والتلاقي، وقادرة أن تعود بالخير على الشعبين، فمناهج التكوين متشابهة والسياحة يمكن أن تكون استثماراً كبيراً لبلدنا بالاعتماد على خبرات الشريك، وكذلك الفلاحة، إذ يعرف الفرنسيون مردود هذه الأرض جيداً، بينما لم نحسن نحن استغلالها كما يلزم، على الرغم من الأموال الطائلة التي صُرفت على هذا القطاع. وفي باب الثقافة، فالمتاحف متداخلة محتوياتهاـ والمكتبات كذلك، والإنتاج الأدبي والفني، وتواجد قوى الإبداع على الضفتين، واللغة الفرنسية مشترك تاريخي بيننا، وهي كما قال عنها كاتب ياسين “غنيمة حرب” يمكن أن تصبح وسيلة لغنيمة الاقتصاد، من دون التنازل عن مكانة لغتينا الوطنيتين العربية والأمازيغية.

اندبندنت