أحزاب انبثقت من رحم “الانتفاضة” العراقية تدرس خيار مقاطعة الانتخابات


“الاستعراضات العسكرية التي قامت بها ميليشيات مسلحة وسط العاصمة تعزز المخاوف بشأن نزاهة الاستحقاق المقبل”

أحمد السهيل مراسل

لا يزال الجدل مستمراً في الأوساط العراقية في شأن إمكانية ضمان نزاهة الانتخابات المقبلة، خصوصاً مع عدم حسم الملفات الرئيسية التي طالبت بها “انتفاضة” أكتوبر (تشرين الأول) العراقية، وعلى رأسها ملف السلاح المنفلت، والمال السياسي، وتأثيرهما على مسار الانتخابات.

وبالإضافة إلى تلك المتطلبات، يبرز مطلب الإشراف الأممي على الانتخابات العراقية كأحد الشروط الرئيسة من قبل المحتجين، خصوصاً مع تعبيرهم في أكثر من مناسبة عن عدم الثقة بالآليات التي أدارت الانتخابات المتعاقبة في البلاد.

وتمثل عدم ثقة الناخبين العراقيين بنزاهة وشفافية الانتخابات، المعضلة الأكبر التي تواجه الحكومة العراقية، الامر الذي دفع رئيس الوزراء في أكثر من مناسبة للحديث عن استعادة ثقة العراقيين بالانتخابات، والتعهد بتوفير الأجواء الملائمة لإجرائها بعيداً عن تأثير السلاح المنفلت والمال الفاسد.

وتبدو مهمة استعادة ثقة العراقيين بالعملية الانتخابية شاقة بالنسبة للحكومة العراقية، حيث يقف في طريقها عديد من العقبات، خصوصاً مع عدم توفر ملامح حسم كل الملفات المرتبطة بها حتى الآن، الأمر الذي ربما يدفع إلى حملة مقاطعة شعبية للانتخابات المقبلة كما جرى في انتخابات عام 2018.

الأمن الانتخابي

ولا تتوقف الاعتراضات على مستوى الشارع العراقي فحسب، إذ يتحدث عديد من قادة الأحزاب الجديدة التي انبثقت من رحم “الانتفاضة” العراقية عن احتمالية اتخاذهم خيار مقاطعة الانتخابات المقبلة في حال عدم حسم تلك المتطلبات.

ويأتي الأمن الانتخابي على رأس متطلبات الانتخابات التي يتحدث عنها الناشطون، حيث تتخوف تلك الأحزاب الناشئة من عمليات استهداف قد تطاول مرشحيهم في حال قرروا خوض الانتخابات المقبلة، فضلاً عن المخاوف المتعلقة بتأثير الأحزاب التقليدية على النتائج وعمليات التزوير.

ويبدو أن ثمة اتجاهين رئيسين داخل أوساط ناشطي الاحتجاجات العراقية، يدفع الاتجاه الأول للاشتراك بدعوى أن الاحتجاجات الأخيرة زادت من نسبة الوعي في الشارع العراقي، فضلاً عن تراجع شعبية الأحزاب التقليدية خلال السنوات الأخيرة، أما الاتجاه الآخر فيعتقد أن عدم حسم متطلبات الانتخابات التي دعت لها الاحتجاجات يعني تكرار سيناريو انتخابات عام 2018، وسيطرة الأحزاب التقليدية مرة أخرى.

ويقول زايد العصاد عضو حزب البيت الوطني (أحد الأحزاب الجديدة التي شكلها ناشطون في الانتفاضة العراقية)، إن “غالبية الحركات التي انبثقت عن الثورة لم تحسم موقفها من الانتخابات المقبلة حتى الآن”، مبيناً أن “هناك تبايناً في وجهات النظر داخل الحزب، خصوصاً مع عدم وجود ضمانات بأن تكون هذه الانتخابات مغايرة لسابقاتها”.

ويلفت إلى أن السبب الرئيس خلف عدم حسم موقف الناشطين في شأن الاشتراك في الانتخابات المقبلة مرتبط بـ”عدم وجود دلائل على أي تحركات لحسم ملف السلاح المنفلت، أو المال الفاسد، واللذين يعدان العوامل الرئيسة التي تحول دون إجراء انتخابات نزيهة وشفافة”، مردفاً “الاستعراضات العسكرية التي قامت بها ميليشيات مسلحة وسط العاصمة تعزز المخاوف في شأن نزاهة الانتخابات المقبلة”.

وفي شأن العراقيل التي تقف في طريق الأحزاب الناشئة، يتحدث العصاد عن أن “غالبية الأحزاب التي تشكلت من رحم الثورة العراقية، لا تزال غير قادرة على الإعلان عن تجمعاتها أو دعوة العراقيين لمؤتمرات، نظراً للتهديدات المستمرة والمخاوف من الاستهداف، في مقابل حرية أحزاب السلطة بالتجمع، وحتى استعراض السلاح وسط العاصمة”.

الإشراف الأممي شرط رئيس

وبالإضافة إلى المطالبات بحسم ملف الأمن الانتخابي، يتمسك الناشطون بضرورة توفير شرط الإشراف الأممي على الانتخابات، حيث يؤكد العصاد أن “كل هذه العوامل دفعتنا للتشديد على إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات المقبلة”، لافتاً إلى أن “محاولة تغييب هذا الشرط يمثل دافعاً آخر للمقاطعة”.

ويتابع أن “جملة عوامل دفعتنا لطلب الإشراف الأممي أبرزها التحفظات على عمل المفوضية العليا للانتخابات وتشكيلها على أساس محاصصاتي”. 

وأثار استعراض “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري وسط بغداد مخاوف الناشطين على إمكانية ضمان نزاهة الانتخابات في ظل تفشي ظاهرة السلاح خارج إطار الدولة، وربما يمثل أحد الدوافع الرئيسة لطلب الإشراف الأممي.

وكان القيادي في التيار الصدري حاكم الزاملي قال في مقابلة مع قناة “الشرقية”، إن “التيار سيحرز نتائج جيدة في الانتخابات، وإن ذهاب كرسي رئاسة الوزراء لأي جهة أخرى غير التيار يعني أن الانتخابات مزورة”.

ويرى العصاد أن “تزامن تلك التصريحات مع استعراض التيار الصدري، يعني أن تلك القوات لن تسمح بأي فوز لغير التيار الصدري، وهذا دافع آخر للمقاطعة”، مبيناً أن “استمرار امتلاك الأحزاب السياسية لقوى مسلحة موازية للدولة يعوق إمكانية تحقيق شرط نزاهة الانتخابات”.

وبرر التيار الصدري استعراض “سرايا السلام” في ثلاث محافظات عراقية، بدعوى وجود تهديد من تنظيم “داعش” لاستهداف مراقد دينية، في حين أشار الناطق العسكري باسم “سرايا السلام”، صفاء الموسوي، الاثنين 8 فبراير (شباط)، إن تنسيقاً جرى مع الأجهزة الامنية وقيادة العمليات المشتركة بعد انتشار قوات السرايا في مدن عدة في إثر تحذير أصدره “وزير الصدر” من استهدافات في ثلاث محافظات.

الرقابة أخف أشكال الوجود الدولي

وكان الإشراف الأممي أحد أبرز شروط المحتجين العراقيين، حيث يعتقدون أنها الآلية الوحيدة التي تضمن ثقتهم بالعملية الانتخابية، إلا أن الاعتراضات السياسية كانت سريعة جداً، وتحديداً من قبل الجبهة الموالية لإيران، حيث عبر زعماء أحزاب وفصائل مسلحة موالية لإيران عن رفضهم الإشراف الأممي والاكتفاء بالمراقبة، الأمر الذي يثير عديداً من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية لرفض الإشراف الكامل على الانتخابات. 

ويبرر الرافضون للإشراف الأممي موقفهم بأن هذا الإشراف يعد انتهاكاً للسيادة العراقية، وعلى رأس الجهات السياسية التي ترفض الإشراف الأممي زعيم “ائتلاف دولة القانون”، نوري المالكي، وزعيم ميليشيا “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي.

وعلى الرغم من معارضة التيارات الولائية لخيار الإشراف الأممي للانتخابات، أبدى زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر تأييده للإشراف الأممي على الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

وقال الصدر في مؤتمر صحافي عقده أمام منزله في 11 فبراير “لا أريد احتيالاً… لهذا السبب أطلب تدخل الأمم المتحدة للإشراف عليها”. 

وأكد أن “الإشراف الأممي على الانتخابات المبكرة مرغوب به”، في حين اشترط عدم “تدخل باقي الدول الإقليمية والدولية في شؤوننا”. 

وكانت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، جنين هينيس بلاسخارت، قد ذكرت ثلاثة خيارات يمكن تصورها من أجل حماية نزاهة العمليات الانتخابية، تتمثل بالإشراف والرصد والمراقبة، مبينة أن طلب العراق المقدم إلى مجلس الأمن، يشير إلى خيار المراقبة.

وأضافت “المراقبة هي أخف أشكال الوجود الدولي في العراق لرؤية ما يحدث يوم الانتخابات. وهذا بالضبط ما طلبته الحكومة العراقية من مجلس الأمن”.
وتابعت “هي مجرد ضمانة إضافية لحماية نزاهة العملية الانتخابية، ولا شيء محدد بشأن العراق، ولكنها مهمة لإبعاد السلاح والمال من التأثير على نتيجة الانتخابات”.

مخاوف من كشف آليات التزوير

وفي الوقت الذي يبرر فيه الرافضون للإشراف الأممي سبب رفضهم بحجة التدخل والسيادة، يؤكد متخصصون في الشأن الانتخابي ومديرون سابقون في المفوضية أن الإشراف الأممي يعني إشرافاً رقابياً، وليس تنفيذياً ولا يعد انتهاكاً للسيادة.

ويقول رئيس مفوضية الانتخابات الأسبق عادل اللامي، إن السبب الرئيس لرفض الأحزاب التقليدية الإشراف الأممي يتعلق بـ”المخاوف من كشف عمليات التزوير المنظم وتواطؤ بعض موظفي مراكز الاقتراع مع بعض الأحزاب”.

وأكد اللامي في حديث لـ”اندبندنت عربية”، أن العراق بحاجة لإشراف أممي ووجود لخبراء الأمم المتحدة خلال العملية الانتخابية، وليس رقابة فحسب”، مردفاً “الرقابة الأممية كانت حاضرة في الانتخابات السابقة، لكنها رقابة شكلية، وهذا ما تطلبه الكتل السياسية التقليدية”. 

وفي شأن الفوارق بين الإشراف والرقابة، يبين اللامي أن “الإشراف يكون من خلال حضور المراقبين اجتماعات مجلس المفوضين والإشراف على عملية عد وفرز الأصوات، فضلاً عن الإشراف على الأنظمة والتعليمات الصادرة ومراقبة تنفيذها، أما الرقابة فهي أدنى من ذلك بكثير”.

ويشير إلى أن “هناك إشكالية في فهم مفهوم الإشراف الأممي، إذ إن المقصود هو إشراف رقابي للتقييم ومراقبة سير العملية الانتخابية، وليس إدارة العملية الانتخابية بشكل مباشر، كما يحدث في الإشراف التنفيذي”.

ويؤكد أن “هذا النوع من الإشراف لا يمثل أي انتهاك للسيادة العراقية، ويتم من خلال طلب رسمي من الحكومة”، مبيناً أن السبب في طلب الإشراف الأممي هو “الصراع السياسي، وعدم وجود حكم محايد يضمن نزاهة الانتخابات”.

وعن دعوات مقاطعة الانتخابات المقبلة، يلفت اللامي إلى أن “المقاطعة ستزيد من فرص التزوير، خصوصاً بعد تجربة مقاطعة انتخابات 2018، والكتل التقليدية لا تريد تنفيذ متطلبات الانتخابات لدفع الجمهور غير الحزبي لخيار المقاطعة، الأمر الذي سيوفر لها مساحة أكبر للهيمنة”. 

فرصة أخيرة للنظام السياسي 

وفي مقابل البحث عن ضمانات لنزاهة الانتخابات المقبلة، يرى مراقبون أن تلك الانتخابات ستمثل الفرصة الأخيرة للنظام السياسي في العراق، وعدم ضمان نزاهتها سيؤدي إلى عودة اشتعال الاحتجاجات في البلاد مرة أخرى، فضلاً عن احتمالية تدخل المجتمع الدولي لحسم الأمة في العراق.

ويرى الباحث في الشأن السياسي هشام الموزاني أنه “لا يمكن الحديث عن ضمان نزاهة الانتخابات المقبلة مع استمرار نفوذ السلاح والمال السياسي على الدولة العراقية”، مبيناً أن مصدر الإشكال الرئيس يرتبط بإمكانية إقامة الانتخابات في موعدها من دون حسم تلك الملفات”.

ويضيف “دخول الكيانات السياسية الجديدة للانتخابات سيعطي شرعية للقوى التقليدية المسيطرة على النظام السياسي في العراق، لأن تزوير الانتخابات سيكون أمراً حتمياً”.

وفي شأن عدم حسم ملفات السلاح المنفلت والفساد قبل الشروع بانتخابات مبكرة، يشير الموزاني إلى أن “النظام السياسي في البلاد ينظر للديمقراطية كآليات فقط، وغير مكثرث بتوفير شروطها”.

ويلفت الموزاني إلى أن خطورة عدم توفير الأجواء الملائمة لإجراء انتخابات نزيهة في البلاد، تتمثل بأنها “ستؤسس إلى احتجاجات أوسع من “انتفاضة” أكتوبر 2019، وربما تدفع المجتمع الدولي إلى التدخل بشكل أكبر”.

وبحسب الموزاني، تمثل مخاوف الكتل السياسية الرئيسة من احتمالية خسارتها في الانتخابات المقبلة الدافع الرئيس لعرقلة مساعي الحكومة العراقية في توفير أجواء ملائمة للتنافس الانتخابي، مبيناً أن “نزاهة الانتخابات تعني تجريد عديد من القوى المتهمة بعمليات فساد وقتل من قوتها ونفوذها”.

ويختم أن “فرض الحكومة العراقية لإجراءات وقيود لتحديث بيانات الناخبين، يمثل رسالة عجز عن حصر السلاح بيد الدولة، ويعطي انطباعاً واضحاً عن عجزها الإيفاء بتعهداتها بتوفير متطلبات انتخابات نزيهة”.

ويستمر ترقب العراقيون لإجراءات حكومية واسعة تعزز ثقتهم بالانتخابات من جديد، حيث يتخوفون من احتمالية تكرار سيناريو انتخابات 2018، وفقدان الأمل بإمكانية أن تؤدي الانتخابات إلى أي تغيير على مستوى العملية السياسية في البلاد.