كونية الوباء وقومية اللقاح


أي عالم بعد كورونا؟

رفيق خوري كاتب مقالات رأي 

ليس قليلاً عدد الكتب الصادرة خلال عام واحد عن عالم ما بعد كورونا. وليس كثيراً ما عالجناه من ضعف في عالم العيش والموت مع كورونا. الوباء كشف “عقب أخيل” العالم المتباهي بالقوة: نقاط الضعف في العولمة، نواقص الاستعداد في الدولة الوطنية لمواجهة التحدي، البيروقراطية التي تكبل منظمة الصحة العالمية، سيطرة التجارة والصراعات الجيوسياسية حتى في مسألة إنسانية عامة، تقديم سطوة النظام والأيديولوجيا التي تحركه على الصحة العامة، بحيث تكتمت السلطات في الصين على ظهور الفيروس القاتل، وضاعت الفرصة للقضاء السريع عليه في ووهان ومنع انتشاره في العالم، تقديم الحسابات الانتخابية لساكن البيت الأبيض ومصالح الشركات الكبرى على الصحة العامة في أميركا، بحيث تجاوزت الإصابات فيها 30 مليوناً واقتربت الوفيات من نصف مليون، ثغرات النظام الصحي في الدول الغنية في أميركا وأوروبا، وليس فقط في الدول النامية والفقيرة، التناقض بين “كونية الوباء” و”قومية المعالجة”، بحيث حصلت الدول الغنية على 70 في المئة من جرعات اللقاح مقابل 0,1 في المئة لأفقر 50 دولة، كما في تقرير الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهو ما دفع رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانون غيبريسوس إلى التحذير من “قومية اللقاح” والقول إن “الوباء لن ينتهي في أي مكان إن لم ينتهِ في كل مكان”.

لكن الخبراء يرون إنجازاً علمياً مهماً هو نجاح العلماء والمختبرات في صنع لقاحات فعالة ضد فيروس خطير خلال عام، حيث كان الأمر في الماضي يحتاج إلى سنوات طويلة، أما العلاج، فإنه لم يظهر بعد.

في شتاء العام الماضي، كان الانطباع السائد هو أن “كوفيد-19” وباء موسمي ينتهي مع حرارة الصيف، أما اليوم، فإن السؤال الحائر هو: هل هناك بالفعل عالم ما بعد كورونا أم أننا مجبرون على التكيف مع عالم كورونا إلى أمد طويل؟ هل صار التناوب في كل دول العالم بين الإغلاق التام والفتح الجزئي هو قدر البشرية؟ وإلى أي حد يتمكن العالم من توظيف الفرصة التي يفتحها الخطر بالنسبة إلى مستقبل الأنظمة السياسية والاقتصادية؟

عنوان “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس هذا العام كان “إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية”، والبروفيسور كلاوس شواب “دينامو” المنتدى أصدر كتاب “كوفيد-19: إعادة الضبط والتشغيل الكبرى”.

موجز ما رآه هو أن الوباء سيحدث تغييراً جذرياً في العالم إلى أجيال، وأنه “فرصة لمسار جديد يساعد الرأسمالية المعولمة على تخطي أزماتها”. سكوت غالواي في كتاب “ما بعد كورونا”، قال إن الوباء “سرع في صعود الشركات الكبرى” التي ستصعب مراقبتها، والرابح هو “الشركات التكنولوجية”، جيمس ريكاردز في “الكساد الكبير الجديد: الرابحون والخاسرون”، توقع انهيار المصارف تحت وطأة الديون والعيش في 30 سنة من “النمو الاقتصادي المنخفض”، غريس بلايكلي في “كيف سيغير الوباء الرأسمالية”، تحدثت عن حقبة جديدة من “الرأسمالية الاحتكارية” وزيادة أرباح “الشركات التكنولوجية، ووقوع الشركات في أيدي الدول”. فريد زكريا في “عشرة دروس لعالم ما بعد كورونا”، تصور “عالماً جديداً” يقود إليه “الوباء القبيح” ودوراً أكبر للحكومات وإعادة توزيع للثروة.

والقاسم المشترك بين هذه التصورات لعالم ما بعد كورونا هو إجبار العالم على “تحسين الحوكمة”، وهذا ما دعا إليه صندوق النقد الدولي بالقول إن “إصلاحات الحوكمة ومكافحة الفساد ضرورية لإعادة البناء بعد الأزمة بشكل أفضل”، لكن الناقص في التصورات هو الالتفات إلى ما صنعه الوباء بالإنسان الفرد المحكوم بالعزلة والخائف من الفيروس في قبضة الباب وصفحات الجريدة وجاره القريب، حتى الوردة في الطبيعة صارت مصدر خوف.

التباعد الاجتماعي صار محل التضامن الاجتماعي، ولا شيء يتقدم على الفردية والخوف، و”ما يخيفنا في الوباء هو أنه يعيد تذكيرنا بمصيرنا الشخصي” كما قال غابرييل غارثيا ماركيث صاحب “حب في زمن الكوليرا” و”مئة عام من العزلة”.