القضاء اللبناني في “قبضة” السلطة السياسية وتعويل على تحريره


لم تكشف في تاريخ الجرائم حقيقة واحدة باستثناء اغتيال رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل

دنيز رحمة فخري صحافية

لم تكن دماء الكاتب والباحث السياسي لقمان سليم قد جفّت بعد، حين ارتفعت أصوات مطالبة بتحقيق دولي غير محلي لكشف ملابسات الجريمة.

هي ليست المرة الأولى التي يناشد فيها لبنانيون المجتمع الدولي، للمساعدة من خلال القضاء الخارجي لحلّ لغز جرائم حصلت في لبنان، أو ملفات فساد تسببت بانهيار الوضعين المالي والاقتصادي. المطالبة المستمرة بتحقيقات غير لبنانية تكرّس اللا ثقة في القضاء اللبناني، التي اتخذت مساراً تصاعدياً بعدما تكون لدى معظم اللبنانيين قناعة بتدخل السياسة في عمل القضاء، ما أدى أحياناً إلى تحوير الحقيقة وأخرى إلى طمسها نهائياً. واقع القضاء دفع وزير العدل السابق ابراهيم نجار إلى التغريد قائلاً: “بكل أسف أقول اليوم إن القضاء اللبناني أمام التحدي الأكبر بعد فشل التحقيقات في جرائم سابقة بقيت ملفاتها فارغة من أي دليل جدي، جنايات وحشية حديثة تنتظر شجاعة وكفاءة في انفجار المرفأ واغتيال لقمان سليم والأموال المنهوبة. إذا لم ينجح قضاؤنا فالسلام على ما تبقى”.

غياب الدولة هو السبب

ولدى سؤال وزير عدل سابق عايش ملفات حساسة، حول مدى استقلالية القضاء في لبنان، يجيب من دون تردد “ليست لدينا دولة بالأصل ليكون لدينا قضاء مستقل”، ويضيف: “هناك قضاة مستقلون لكن العين لا تقاوم المخرز”. الوزير نفسه يعتبر أنه لو كان لدينا قضاء قادر وكفوء وشجاع ولو كانت الإمكانات السياسية والقانونية متوفرة لما ذهبنا إلى المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري.

ويشرح قاض رفض الكشف عن اسمه عن تقاعس أجهزة الدولة حينها في تلبية مطلب المحقّق العدلي الدولي بالاستماع إلى شهود من الضاحية الجنوبية الخاضعة لنفوذ “حزب الله”، وكم من مرة تعطّلت التحقيقات لرفض القوى السياسية تسليم داتا الاتصالات. ويحمّل وزير العدل السابق الأجهزة الأمنية المولجة إجراء التحقيقات مسؤولية تعثر المضي بالملف أو عدمه. ويقول: “القاضي مهمته أن يحكم، وعندما يصله ملف كامل بالأدلة لا يمكن إلا أن يصدر حكمه. اللائحة بالملفات الخالية تطول، والأسئلة كثيرة حول مصير التحقيقات في جريمة اغتيال المدير العام لقوى الأمن الداخلي وسام الحسن والنواب بيار الجميل وجبران تويني وأنطوان غانم ووليد عيدو والوزير محمد شطح، وغيرها من ملفات بقيت التحقيقات فيها خالية من أي موقوف أو ورقة ثبوتية أو أدلة. وحدها الملفّات المركبة كانت أوراقها كثيرة”، يقول وزير عدل سابق.

السياسة والطائفية هما العلة 

وتعد قضية اختفاء الإمام موسى الصدر من أبرز القضايا التي كانت عالقة لدى القضاء اللبناني. وبقي الملف في جارور النائب العام في المحكمة العسكرية أكثر من 25 عاماً، ولم يقدم مطالعته فيه لأن أحداً لم يسأله عنه. وعندما راجعه وزير العدل إبراهيم نجار في تلك المرحلة عن أسباب التأخير، تبيّن أن الاعتبار الطائفي كان السبب، بحيث لم تكن هناك ثقة بادعاء النائب العام السني، في قضية زعيم شيعي، على دولة سنية هي ليبيا حيث يعتقد أن الإمام الصدر اختفى. علماً أن أي قرار من هذا النوع كان يحتاج إلى ضوء أخضر سياسي لا سيما من قبل رئاسة مجلس الوزراء. اللائحة طويلة بالملفات التي بقيت فارغة ولم تصل تحقيقاتها إلى أي مكان، لأسباب سياسية. يسأل قاض سابق أين التحقيقات في أحداث السابع من مايو (أيار)؟ وماذا حل بها؟ وهل ستصل التحقيقات في ملف انفجار المرفأ إلى الحقيقة؟ وهل يعقل أن قاضي التحقيق لا يستطيع أن يدّعي على أي سياسي، وإلا يتهم تحقيقه بالمريب كما وصفه أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله؟ التجاوزات السياسية داخل السلطة القضائية كثيرة، بحسب مصدر قضائي كشف أن أفظعها حصل عام 2005 عندما أُلغي حكم جزائي، وبُرئ صاحبه لأنه زعيم سياسي، ولكي يتمكن من العودة من منفاه إلى لبنان مجدداً.

انهيار السلطة القضائية منذ الوصاية السورية

تمكن القضاء أن يبقى متماسكاً خلال الحرب اللبنانية، وحافظ على كيانه كسلطة واحدة، ولم تطله شظايا الحرب كما فعلت بالمؤسسة العسكرية، التي عانت عام 1984 من انقسام طائفي. لكن الانهيار وفق القاضي النائب جورج عقيص بدأ في حقبة الوصاية السورية على لبنان، بحيث كان المسؤولون السوريون المكلفّون بالملف اللبناني يهددون القضاة، ويتدخلون في التشكيلات وهم من أطلقوا نهج التوزيع السياسي على مراكز المحاكم الجزائية. يؤكد عقيص، وهو قاض قدّم استقالته من القضاء في زمن الوجود السوري رفضاً للإملاءات السياسية، أن العيب الأكبر الذي أصاب القضاء بشكل فادح هو عندما تحوّل مجلس القضاء الأعلى إلى “مجلس ملّة”، بحيث أصبح كل عضو في المجلس يهتم بتشكيلات القضاة التابعين لطائفته. ويُحكى أن بعض القضاة المعينين في مجلس القضاء الأعلى بقَوا مرتهنين للجهة السياسية التي عيّنتهم، والعدوى بطبيعة الحال انتقلت إلى القضاة العاديين.

لا حلّ إلا بفصل المناقلات والتعيينات عن السياسيين

في كل دول العالم تقاس استقلالية القضاء بقدرة السلطة القضائية على إجراء المناقلات وعلى طريقة تكوين السلطة المشرفة عليها، وهي في لبنان مجلس القضاء الأعلى. فعلى الرغم من وجود المادة 20 في الدستور، التي تؤكد أن السلطة القضائية هي السلطة الثالثة إلى جانب السلطتين الأولى التشريعية والثانية التنفيذية، أبقى القانون الوضعي الذي يرعى عمل القضاء مسألة تعيين مجلس القضاء الأعلى والتشكيلات القضائية في يد السلطة السياسية، وتحديداً في يد مجلس الوزراء عبر وزير العدل. لكن التعديل الذي حصل عام 2000 على المادة 5 من قانون التنظيم القضائي، ساهم في الحد من قدرة وزير العدل على تعطيل التشكيلات القضائية، بحيث أبقى له الحقّ برفض التشكيلات من دون حفظها في جاروره، وحتّم عليه إعادة المرسوم إلى مجلس القضاء الأعلى لإعادة دراسته، لكن إذا أصرّ المجلس على التشكيلات بسبعة أعضاء من أصل عشرة، يضطر الوزير حينها إلى القبول بها وتوقيع مرسومها. لكن تعديل المرسوم الاشتراعي الذي عالج مسألة تعطيل التشكيلات من قبل وزير العدل، أبقى من جهة أخرى على صلاحية رئيس الجمهورية في رفضها وتوقيفها، وهو ما حصل في التشكيلات الأخيرة التي لم تبصر النور بسبب عدم توقيع الرئيس ميشال عون عليها، على الرغم من موافقة أغلبية مجلس القضاء الأعلى عليها.

المشكلة لا تزال إذاً وفق مصدر قضائي على حالها، إذ لا يمكن الحديث عن استقلالية القضاء، طالما السلطة السياسية لا تزال قابضة على موضوع المناقلات وبطبيعة الحال على التشكيلات القضائية.

السلطة القضائية ضعيفة أمام الضغط السياسي

وبمعزل عن استقلالية القضاء من عدمه، يؤكد القاضي السابق النائب جورج عقيص أن موضوعين أساسيين يثبّتان ضعف السلطة القضائية في لبنان، الأول ضعفها المهني، والثاني ضعفها تجاه الضعط السياسي الذي تتعرّض له. ويذكر عقيص أنه لم يحصل في تاريخ الجرائم التي حصلت في لبنان أن كشفت حقيقة واحدة، باستثناء حقيقة اغتيال رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل، علماً أن مرتكب الجريمة لا يزال فاراً حتى اليوم. لم يتمكن القضاء اللبناني من كشف ملف واحد من ملفات الفساد العديدة في الدولة. وبالتالي فإن القضاء اللبناني فشل في تحقيق المعايير التي تؤمن له نجاحه، إن من خلال ضبط الأمن أو من خلال مكافحة الفساد. ليس القضاء المدني أفضل حالاً يقول عقيص، فهو يعاني من بطء المحاكمات وكسل القضاة والتأخير في الأحكام وسوء توزيع الملفات بين المحاكم.

محاولات فصل القضاء عن السياسة مستمرة

“نحو قضاء مستقل عن السياسة”، هو الشعار الذي تبنته وزارة العدل بين عامي 2008 و2011 في عهد الوزير السابق إبراهيم نجار. لكن الشعار بقي صورة لإعلان نُشر على الطرقات ولم يطبّق في النفوس والنصوص. عند تسلمه مهامه حاول رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود المشهود له بنزاهته واستقلاليته، تحسين التشكيلات المدنية وجزء كبير من الجزائية، على الرغم من أنه لا يملك الأكثرية داخل مجلس القضاء الأعلى. وبقي البتّ بمصيرها للسياسة.

محاولات فصل السياسة عن القضاء عملاً بمبدأ فصل السلطات، انطلقت مجدداً باقتراح قانون تقدّم به تسعة نواب، يعمل على نزع قرار التعيينات والمناقلات القضائية من يد السلطة السياسية لتحريرها. اقتراح القانون الموجود حالياً على طاولة لجنة فرعية منبثقة من لجنة الإدارة والعدل لاستكمال دراسته، يقترح تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى بالانتخاب بواسطة القضاة أنفسهم، بدلاً من تعيينهم من قبل السلطة التنفيذية الممثلة بمجلس الوزراء، مع وجود طرح بإبقاء المراكز الأساسية خارج هذا الاقتراح، بحيث يعين رئيس مجلس القضاء الأعلى ومدعي عام التمييز بمرسوم من الحكومة. اقتراح القانون الجديد يحدّد شروطاً جديدة للمناقلات، إذ تصبح مبنيّة على معايير التدرّج والكفاءة والترفيع، بدلاً من المحسوبيات السياسية. وينص على أن نقل القاضي من مكان إلى آخر لا يتم الا بموافقته، أما عندما تشغر مراكز لأسباب لها علاقة بوفاة أو استقالة أو نقل تأديبي، فيمكن للقاضي أن يترشح، ويدرس ملفه على أساس المعايير المذكورة أعلاه.

المحاولات الهادفة إلى تأمين استقلالية القضاء ستستمر، لكن نجاحها غير مضمون طالما مصيرها في يد السلطة السياسية نفسها القابضة على قرار القضاء.