هواجس من صفقة على حساب لبنان في التفاوض الأميركي – الإيراني


تمنيات حلفاء “حزب الله” بالتسليم بنفوذه مقابل ترسيم الحدود يوازيها قلقه من الضغوط

وليد شقير كاتب صحافي


يسعى قادة سياسيون وأحزاب في لبنان إلى استقاء المعلومات عن التوجهات الفعلية لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على صعيد سياسته الخارجية الشرق أوسطية، والتي سيتم رسمها خلال الشهرين أو الثلاثة المقبلة، إذ يفترض بناء حسابات ما سيؤول إليه الوضع اللبناني المتأزم عليها، في إطار الخريطة الإقليمية.
وبالإضافة إلى التوتر الذي يغلب على المسرح السياسي اللبناني، وإحدى دلائله استمرار الفراغ الحكومي منذ ستة أشهر، تسيطر الحيرة على بعض السياسيين حيال ما ينتظر البلد في سياق لعبة الأمم والتسويات المحتمَلة في المنطقة، بينما يعود توتر البعض الآخر إلى تشاؤمهم من أن تأتي نتيجة المساومات على حساب البلد الصغير واستقلاله ليتم إخضاعه مرة جديدة لوصاية إقليمية، إيرانية هذه المرة، فيما يعتقد مراقبون أن قلق وكلاء إيران في لبنان، ولا سيما “حزب الله”، ومخاوفهم من تعرضهم للاستهداف، هي التي تفسر تشددهم في التعاطي مع المعادلة التي يُفترَض أن تحكم لبنان في هذه المرحلة.

العقلانية والتسويات ولبنان “فرق عملة”

وقال مرجع سياسي مؤثر في المسرح السياسي اللبناني، فضل عدم ذكر اسمه، إنه “بات معروفاً أن إدارة بايدن ستتّبع سياسة أكثر مرونة وأقل تشدداً تجاه قضايا المنطقة، وستسعى إلى التسويات والتهدئة، بدءاً بموضوع الملف النووي الإيراني. ما سينعكس سلوكاً عقلانياً على جبهات التوتر، تجاه إيران بحيث يجري استثمار الضغوط التي قامت بها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من أجل التوصل إلى حلول تدريجية معها، فطهران أيضاً ستضطر إلى المساومات للخلاص من العقوبات التي أنهكت اقتصادها وشعبها، وبالتالي لا بد من تقديم تنازلات، مع احتفاظها بمكاسب حققتها”.
و”العقلانية المنتظرة من إدارة بايدن”، وفق تقدير المرجع نفسه، “ستنسحب على مواقف حلفائها، لا سيما الخليجيين منهم بحيث سيجد هؤلاء طريقة للتأقلم مع أي تسوية بين الولايات المتحدة وإيران تحفظ أمنهم. وفي الطريق إلى التسويات هذه قد يذهب لبنان “فرق عملة” لأنه مُهمَل من قبل الدول المؤثرة التي من عادتها أن تضمن حمايته، كما من الدول العربية، نتيجة نفوذ “حزب الله” فيه”.

توجس معارضي نفوذ إيران

ويصنّف البعض تحركات مرجعيات وقادة سياسيين في إطار السعي إلى تفادي أن تأتي التسويات على حساب لبنان وسيادته واستقلاله، ومنها تحرك البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الداعي إلى مؤتمر دولي “يثبّت لبنان في أطره الدستورية الحديثة”. كما نشاط الرئيس المكلَّف تأليف الحكومة، زعيم تيار “المستقبل”، سعد الحريري بين العواصم المعنية بالوضع اللبناني، في محاولة لتأمين حضور لبنان على الخريطة الدولية في زمن التحضير للتسويات.
في كل الأحوال فإن الذين يتوجسون من إمكان إخضاع لبنان لمعادلات الأمر الواقع في صفقة تفرضها موازين القوى في البلد والمنطقة، يستندون إلى ممارسات حلفاء إيران. وقال رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط أكثر من مرة في تصريحاته خلال الشهرين الماضيين إن “القرار اللبناني انتهى”، مشيراً إلى أن “مواقف عدة اتخذها رئيس الجمهورية ميشال عون أتت بطلب من إيران ومنها الموقف المتشدد الذي اتخذه من ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل”.

“التيار الوطني الحر” يتوقع حواراً لمصلحة خياره

وفي بعض مواقف قيادة “التيار الوطني الحر” ورئيسه النائب جبران باسيل، ما يعتبره خصومه مراهنةً على اتفاق إيراني – أميركي يثبّت المعادلة الحاكمة الراهنة القائمة على تحالف “حزب الله” مع عون و”التيار”. وفي أحد تصريحاته عن الخلاف بين الفريق الرئاسي والحريري، نصح باسيل الأخير بقراءة التطورات متحدثاً عن التسويات المقبلة استناداً إلى الحوار الأميركي – الإيراني. وثمة مَن ينقل عن أوساط قيادية في “التيار الوطني الحر” أن عون وباسيل مقتنعان بأن التفاهم الأميركي – الإيراني المقبل حول الملف النووي سيقود إلى رفع العقوبات الأميركية عن طهران وعن باسيل أيضاً بعدما فرضتها عليه إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب. وهو بالتالي سيستعيد حرية الحركة وستعود واشنطن إلى التعاطي معه كلاعب أساسي.

مراهنة على مقايضة أميركية تبقي نفوذ “الحزب”؟

ويعتبر مَن يؤمنون بنجاح حلفاء إيران في تخطي الضغوط عليهم في إطار الحوار الأميركي – الإيراني المرتقب أن بعض المؤشرات يدل إلى ذلك، منها ما أعلنه الرئيس الأميركي الجديد عن وقف توريد الأسلحة إلى السعودية والإمارات، من أجل وقف الهجمات من قبل التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، إضافة إلى تجميد اعتبار جماعة “أنصار الله” منظمة إرهابية، الذي كان أعلنه وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو قبل أيام من مغادرته منصبه… ويروّج أصحاب وجهة النظر التي تتكهن بتفاهم أميركي – إيراني، لهذا التوجه، بالإشارة إلى أن فريق بايدن الذي سيمسك السياسة الخارجية هو نفسه الذي كان فاوض على الاتفاق على النووي مع إيران خلال عامي 2014 و2015 في عهد الرئيس باراك أوباما، الذي أبدى تساهلاً مع طهران وتغاضى عن توسع نفوذها الإقليمي في سوريا والعراق واليمن ولبنان، من أجل ضمان إنجاح الاتفاق على الملف النووي. ويدعو هؤلاء إلى ترقب إمكانية تجاوز واشنطن شرطها عودة طهران عن إجراءاتها المخالِفة للاتفاق النووي، قبل رفع العقوبات عليها، عن طريق إجازة تقديم مساعدات مالية لها من قبل صندوق النقد الدولي، بحجة مواجهة جائحة كورونا.
ويقول ديبلوماسي عربي ينشط في بيروت إن حلفاء إيران و”الحزب” يعتقدون أنهم ليسوا محشورين بالضغوط في المرحلة المقبلة، وأن “السيناريو الذهبي” بالنسبة إليهم هو أن تحصل مرة أخرى مقايضة أميركية مع إيران فتفضي إلى انكفاء من قبل “حزب الله” عن الأزمات الإقليمية، مقابل أن يحصل على حصة أكبر على الصعيد الداخلي وفق توازنات جديدة داخل النظام اللبناني. ولدى “الحزب” ما يقدمه لواشنطن في هذا السياق، وهو ترسيم الحدود البحرية (والبرية) مع إسرائيل وإقفال ملف النزاع على منابع الغاز والنفط في البحر، مع ما يعنيه ذلك من إقفال للحدود البحرية والبرية، مقابل احتفاظه بسلاحه طالما لم يعد ممكناً استخدامه بوجه إسرائيل.

شروط بايدن وبلينكن وتخبط طهران

في مقابل هذه السيناريوهات يعتقد بعض خصوم “حزب الله” والتركيبة الحاكمة في لبنان أن توقع غلبة النفوذ الإيراني لبنانياً، في أي تفاوض أميركي مع طهران، أمر غير واقعي، ويصح وصفه بأنه تمنيات لرموز “محور الممانعة” تستبق وجهة التفاوض بين الجانبين، خصوصاً أن ما أعلنه بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكن عن السياسة الخارجية للإدارة هو مبادئ عامة حتى الآن، بينما وضع خطة التحرك في كل من الملفات يتطلب وقتاً، في ظل إصرار بايدن على العودة إلى الحلفاء الأوروبيين في خصوص الملف الإيراني وغيره، وحرص بلينكن على إشراك السعودية في التفاوض مع إيران هذه المرة، وعلى التشاور مع إسرائيل، لا سيما أن الإدارة الجديدة تردد أنه سيتناول برنامج طهران للصواريخ البالستية، إضافة إلى نشاطها المزعزع للاستقرار في المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من تهديد لأمن دول الخليج من جهة والدولة العبرية من جهة أخرى.

وفي انتظار اتضاح خطوات واشنطن، تلاحظ أوساط مراقبِة تخبّط المواقف الإيرانية حيال التفاوض مع واشنطن. فتارةً يدعو وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى أن تلعب الدول الأوروبية دوراً وسيطاً مع واشنطن بالتناغم مع اقتراح بلينكن ذلك، وتارةً أخرى يعلن الناطق باسم الخارجية الإيرانية رفض الوساطة الأوروبية. ومرةً يعلن ظريف أن تمسك طهران بموقفها، لا يعني أنه لا يمكن العودة إلى الوراء (العودة عن الإخلال بموجبات الاتفاق وزيادة التخصيب) ثم يعود الرئيس حسن روحاني ليقول أن لا تعديل للاتفاق ولا مشاركة (لدول أخرى) في التفاوض ولا وقف للتخصيب.
وبرأي مَن يدعون إلى عدم التسرع في قراءة الإشارات الأولى التي أرسلتها إدارة بايدن، فإن تجميدها إمداد التحالف العربي بالسلاح، مبرّره ضرورة وقف حرب اليمن، مقابل الالتزام بأمن السعودية، التي تتعرض أراضيها ومنشآتها بشكل شبه يومي للقصف الحوثي المدعوم من قبل إيران، ما يؤشر إلى استمرار هذا الدعم للدفاع عن أراضيها.

 قلق “حزب الله”

أما بشأن لبنان، فإن الخشية من التسليم الأميركي بغلبة “حزب الله” وحلفائه فيه يتناقض مع القلق الذي يظهر على موقف قادة “الحزب” من طرح واشنطن مسألة أذرع طهران الإقليمية وخصوصاً في لبنان، وترجمته نزع سلاح “الحزب” عبر مناقشة “الاستراتيجية الدفاعية” للبلاد. كما أن واشنطن تطرح على الدوام، بالتنسيق مع إسرائيل، مسألة الصواريخ الدقيقة التي يملكها الحزب. ولولا هذا القلق، الذي قد يكلّف لبنان مزيداً من المشاكل والتوترات، لما كان “الحزب” وضع نفسه في موقع الاتهام بأنه يقف وراء عرقلة حليفه، فريق عون – باسيل، تأليف حكومة جديدة من المستقلين غير الحزبيين بهدف تنفيذ الإصلاحات وفق المبادرة الفرنسية. كما أن صدور بيان مشترك عن وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان والوزير بلينكن، للمرة الأولى بالضغط لتشكيل “حكومة ذات صدقية وفعّالة بسرعة” وبإصدار نتائج التحقيق بانفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) الماضي، يعكس تناغماً بين الدولتين، خصوصاً أن الجانب الفرنسي مع الفاتيكان، يشدد على ضرورة “إنقاذ لبنان من الزوال”، وبالتالي أطلق مبادرته ليس من أجل تسليم البلد للنفوذ الإيراني.