هل تقود اتصالات الفاتيكان إلى تدويل أزمة لبنان؟


تطابق أميركي – فرنسي واغتيال لقمان سليم وغموض التحقيق بانفجار المرفأ تحفز الاهتمام الدولي

وليد شقير كاتب صحافي

كان يمكن لدعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى “طرح قضية لبنان في مؤتمر دولي خاص برعاية الأمم المتحدة” أن تمر على أنها موقف معزول أو طوباوي، تغلب عليه التمنيات الصعبة التحقيق، لاستحالة قبول دول وجهات داخلية نافذة بتدويل الأزمة اللبنانية على هذا الشكل، لولا مجموعة مؤشرات ظهرت خلال الأيام التي سبقت ولحقت هذه الصرخة من رأس الكنيسة المارونية في البلد، يمكنها أن ترفد توجهاً من هذا النوع.

لم تكن المرة الأولى التي يشير فيها الراعي إلى المجتمع الدولي طالباً تدخله من أجل لبنان، إذ سبق أن طالب الأمم المتحدة باحتضان مسعاه من أجل تحقيق الحياد الإيجابي عن أزمات المنطقة الذي أطلق نداءه منتصف الصيف الماضي. لكن ما قاله تزامن مع موقف جديد للبابا فرنسيس عن لبنان، ومع حدثين أظهرا اهتماماً دولياً بالوضع اللبناني، هما اغتيال الناشط السياسي والكاتب المعارض لـ”حزب الله” لقمان سليم في 4 فبراير (شباط) واتهام العديد من الناشطين الحزب بالجريمة، والاتفاق الأميركي- الفرنسي على بيان مشترك حول أزمة استمرار الفراغ الحكومي، بدا معه أن هناك تنسيقاً بين باريس وواشنطن يتعدى ذلك الذي كان قائماً إبان إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب حول لبنان. كما أن الدعوة إلى تدويل الأزمة تزامنت مع ارتفاع أصوات المتضررين من انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) احتجاجاً على بطء التحقيق في أسباب الكارثة، بعد مضي 6 أشهر على حدوثها.

البابا يطلب التزاماً دولياً بهوية لبنان

البطريرك الراعي قال كلامه الأخير في عظته يوم الأحد 7 فبراير، معدداً ما هو مطلوب من المؤتمر الدولي، فلاقاه رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا فرنسيس في اليوم التالي، الاثنين 8 فبراير أثناء استقباله أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين في الفاتيكان، متمنياً أن “يشهد لبنان التزاماً سياسياً، وطنياً ودولياً، يسهم في تعزيز الاستقرار في بلد يواجه خطر فقدان هويته الوطنية والانغماس داخل التجاذبات والتوترات الإقليمية”.  

وشدد على “ضرورة أن تحافظ بلاد الأرز على هويتها الفريدة من أجل ضمان شرق أوسط تعددي متسامح ومتنوع، يقدم فيه الحضور المسيحي إسهامه ولا يقتصر على كونه أقلية فحسب”. وأكد أن “إضعاف المكون المسيحي في لبنان يهدد بالقضاء على التوازن الداخلي”. وأشار إلى “أهمية معالجة المشكلات المرتبطة بحضور النازحين السوريين والفلسطينيين، محذراً من “مغبة انهيار البلاد اقتصادياً”. ودعا البابا الزعماء السياسيين والدينيين إلى “وضع مصالحهم الخاصة جانباً والتزام تحقيق العدالة وتطبيق الإصلاحات، والعمل بطريقة شفافة وتحمّل نتائج أفعالهم”.

وما قاله البابا هو نتاج متابعة دقيقة من قبل دوائر الفاتيكان لوضع لبنان، لا سيما منذ انفجار المرفأ الكارثي في 4 أغسطس، والذي دمر أكثر من ثلث العاصمة بيروت، في أكثر من 5 أحياء واسعة معظم سكانها من المسيحيين، فبات زهاء 300 ألف مواطن بلا مأوى فضلاً عن 7 آلاف جريح وسقوط 209 قتلى.

اتصالات الفاتيكان وجدول أعمال الراعي 

وفي وقت يؤشر كلام البابا إلى تعمّق الفاتيكان في مأزق لبنان، ليست المرة الأولى التي يتناوله فيها، إذ سبق أن تحدث عن أزمته في عيد الميلاد، ثم في رسالة إلى اللبنانيين تلاها الراعي في إحدى عظاته. وإذ تقصد البابا أن يطلب “التزاماً دولياً” باستقرار لبنان… أمام السلك الدبلوماسي، علمت “اندبندنت عربية” أن الفاتيكان قاد اتصالات بعيدة من الأضواء في الأسابيع الماضية، مع كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية والعربية حول لبنان وضرورة إنقاذه من حال المراوحة في خطوات معالجة أزمته. ولم تستبعد إحدى الشخصيات القريبة من البطريركية في لبنان أن تكون هذه الاتصالات شملت أيضاً إيران، لدعوتها إلى تسهيل قيام الحكومة اللبنانية التي جمدت الخلافات تأليفها منذ زهاء 6 أشهر، عبر مونتها على “حزب الله” الذي لديه قدرة ضاغطة على حليفه الرئيس اللبناني ميشال عون.

وفيما تتراوح مساعي معالجة المأزق اللبناني بين الإسراع في تأليف حكومة وفق المواصفات والمعايير الفرنسية تطلق الإصلاحات تمهيداً لمساعدات مالية تنقذه، وبين الدعوة إلى مؤتمر دولي يحيد البلد عن حروب وتجاذبات المنطقة، فإن البطريرك الراعي وضع جدول أعمال لإنقاذ البلد يتناول مروحة من القضايا التي يعاني منها. وهو أراد من مؤتمر دولي كهذا أن “يثبّت لبنان في أطره الدستورية الحديثة التي ترتكز على وحدة الكيان ونظام الحياد وتوفير ضمانات دائمة للوجود اللبناني، تمنع التعدي عليه، والمس بشرعيته، وتضع حداً لتعددية السلاح، وتعالج غياب سلطة دستورية واضحة تحسم النزاعات، وتسد الثغرات الدستورية والإجرائية، تأميناً لاستقرار النظام، وتلافياً لتعطيل آلة الحكم عدة أشهر عند كل استحقاق لانتخاب رئيس الجمهورية ولتشكيل حكومة”.

البطريرك وفقدان السلطة الشرعية الشعبية

وإذا كانت هذه العناوين تشمل جوانب الأزمة الراهنة بأبعادها السياسية، فإن عظة البطريرك كررت تعداد المشاكل الأخرى الاقتصادية والمعيشية التي يعانيها اللبنانيون في لهجة بدا معها أنه فقد الأمل برجال السلطة الحاليين، بعدما بادر إلى التوسط بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري أكثر من مرة، ولم يتجاوب معه عون في دعوة الحريري إلى اجتماع ينتهي بإعلان الحكومة. إذ قال الراعي إن “أصحاب السلطة في مكان مع مصالحهم وحساباتهم وحصصهم، والشعب في مكان آخر مع عوزهم وحرمانهم وجوعهم”، لكن اللافت قوله للمرة الأولى إن “الوضع تخطى الحكومة إلى مصير الوطن. وعليه، كلُ سلطة تتلاعب بهذا المصير وتتخلى عن الخيار الوطني التاريخي تفقدُ شرعيتها الشعبية”. وهي المرة الأولى التي يذهب الراعي إلى هذا الحد في موقفه من رجال السلطة. وهو إن لم يسمِّ أحداً فإن الرئيس عون منهم، بعدما كانت البطريركية ترفض مطالبة البعض له بأن يستقيل.

لكن مثل كل شيء في لبنان يجيّر كل فريق موقف أي مرجعية لكلامها وقع كبير، وفق مصلحته. المعارضون للعهد و”التيار الوطني الحر” اعتبروا ما صدر عن الفاتيكان ضد عون والنائب جبران باسيل وحلفهما مع “حزب الله” من زاوية، فيما الأخير وجد في كلام البابا فرنسيس عن أن “إضعاف المكون المسيحي في لبنان يهدد بالقضاء على التوازن الداخلي”، هو لمصلحة وجهة نظره التي تتهم رئيس الحكومة المكلف بتجاهل دور الرئاسة الأولى في تسمية الوزراء، بينما الحريري يتهم عون وباسيل بالسعي للهيمنة على الحكومة بحجة تسمية الوزراء المسيحيين، لإعاقة تنفيذها الملح للإصلاحات، كما في حكومات سابقة.

معارضو التدويل: الثنائي الشيعي و “التيار الحر” 

إلا أن دعوة الراعي إلى تدويل أزمة لبنان، التي يطرحها بعض مجموعات الحراك الشعبي منذ أشهر، تلقى معارضة عون و “التيار الحر” (تجاهل وفد منه التقى الراعي دعوة الأخير) و”حزب الله” واستطراداً “الثنائي الشيعي” والرموز الدينية الشيعية، لأن نجاحها سيقود إلى طرح موضوع سلاح “الحزب” ونزعه، وتدخلاته في حروب وأزمات المنطقة، وسيؤدي إلى تقليص نفوذه وحليفه الرئيس عون، في السلطة في وقت لم يحن أوان تنازلات كهذه بينما المفاوضات الإيرانية الأميركية حول الملف النووي وسائر القضايا التي تنوي إدارة جو بايدن طرحها على طهران، لم تبدأ بعد جدياً، على الرغم من الإشارات التي أطلقها الرئيس الأميركي الجديد لتوجه العودة إلى الاتفاق النووي، والاستعدادات الإيرانية للتفاوض.

ردود الفعل الغربية على اغتيال سليم 

إلا أنه مع وجود العوائق أمام تدويل الأزمة، سبقت ورافقت دعوة البطريرك الراعي مجموعة أحداث ومواقف يمكن أن تخلق مناخاً تحضيرياً لنقلة ما في التعاطي الدولي مع أزمة لبنان. فمن يتمنون رفع أزمته إلى المستوى الدولي، يقرون بصعوبة هذا الأمر لاسيما إذا كان سيمر عبر مجلس الأمن في الأمم المتحدة، حيث لا وجود لأي توافق أميركي مع الصين وروسيا. إلا أنهم لا يستبعدون أن تحصل استجابة في لحظة ما، بعد تراكم الأحداث لعل توافقاً دولياً يحصل حول الوضع اللبناني.

أبرز الأحداث التي خيمت على المسرح السياسي الملبد مع دعوة البطريرك، كان اغتيال لقمان سليم وما تركه من سخط سياسي وشعبي مع توجيه العديد من الأوساط السياسية الاتهام لـ”حزب الله” استناداً إلى كشف سليم نفسه في بيان موقع منه في العام 2019 عن تلقيه تهديدات محمّلاً الأمين العام للحزب حسن نصر الله ورئيس البرلمان نبيه بري أي مكروه يصيبه. وأطلقت الجريمة ردود فعل دولية امتزجت فيها المطالبة بعدم السماح بالإفلات من العقاب لمناسبة مرور 6 أشهر على انفجار مرفأ بيروت، مع إدانة تأخير خلافات المسؤولين قيام حكومة إنقاذية، مع وجوب إجراء تحقيق شفاف في اغتيال سليم. 

لودريان وبلينكن و”تطابق” الموقفين 

فقبل انكشاف مصير سليم بقليل، صدر بيان مشترك عن وزيري خارجية فرنسا جان إيف لودريان، والولايات المتحدة أنطوني بلينكن هو الأول من نوعه، أكدا فيه  أن بلديهما يترقبان “صدور نتائج التحقيقات الجارية بشأن أسباب وقوع انفجار 4 أغسطس بسرعة. ويتعيّن على القضاء اللبناني العمل بشفافية تامة بمنأى عن كلّ التدخلات السياسية”.

وطالب الوزيران الفرنسي والأميركي المسؤولون اللبنانيون بالوفاء “بما التزموا به وأن يشكّلوا حكومة ذات مصداقية وفعّالة وأن يعملوا على تحقيق الإصلاحات كخطوات عملية حتمية لكي تلتزم فرنسا والولايات المتحدة وشركائهما الإقليميين والدوليين بتقديم دعم إضافي وبنيوي وطويل الأجل للبنان”. 

وأوضحت مصادر متصلة بالجانبين الأميركي والفرنسي، أن صدور البيان المشترك عن لودريان وبلينكن حول لبنان تطور جديد، وهو بمثابة إعلان تطابق موقفي باريس وواشنطن، خلافاً للتوافق على أمور والتباين في أخرى في عهد ترمب. ويشكل الموقف المشترك بداية ترميم التحالف الأميركي الأوروبي الذي يركز عليه بايدن ووزير خارجيته. ومن الطبيعي أن يترك الأميركيون للفرنسيين مواصلة ضغوطهم لتأليف الحكومة وفق مبادرة إيمانويل ماكرون، ويكتفون بتأييد جهود باريس، في وقت هم منشغلون بوضع أسس تعاطيهم مع الملفات المعقدة الأخرى في المنطقة.

وألحق الوزيران لودريان وبلينكن بيانهما المشترك ببيان منفرد لكل منهما في اليوم نفسه، عن اغتيال سليم، بعد العثور على جثته مقتولاً فطالب كل منهما “بتمكين العدالة من العمل بكفاءة وشفافية ومن دون تدخلات”.

عوامل التدويل وتبرير مزيد من العقوبات

ولا يستبعد بعض زوار واشنطن أن يؤدي صدى اغتيال لقمان سليم في الكونغرس إلى اقتراح بعض أعضائه فرض عقوبات على “حزب الله” تضاف عبر قانون جديد، على العقوبات التي يخضع لها لتجفيف تمويله، تحت قانون الإرهاب، بعد الصدمة التي عبر عنها رئيس الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب ستني هوير إزاء الجريمة.

وتوالت البيانات الأوروبية حول مرور 6 أشهر على انفجار المرفأ فاعتبر الاتحاد أوروبي أن الشعب اللبناني “يستحق أن يعرف ما جرى. “كما يستحق العدالة والمحاسبة بأسرع ما يمكن. ونواصل دعوتنا السلطات اللبنانية لاحترام التزامها بإنجاز تحقيق محايد، وموثوق، وشفاف، ومستقل”.

ولم يبقَ سفير غربي إلا وأصر على تحقيق شفاف في اغتيال لقمان سليم. وأثار السفير الألماني في بيروت اندرياس كيندل مع عون المسألة باعتبار أن زوجة المغدور ألمانية، فيما بحثت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا مع وزيرة العدل ماري كلود نجم مسألة التحقيق و”أهمية محاسبة مرتكبي الجريمة وغيرها”. 

كل هذه العوامل قد تراكم مبرراً لتدويل الأزمة اللبنانية في شكل من الأشكال، إذا بقي اتفاق قادته على الحلول لأزمته متعذراً.