سلاح الماضي المتخيل لا يغلب مستقبل الشرق


ليس أخطر من العمليات الإرهابية سوى الفكر المريض الذي يحركها

رفيق خوري كاتب مقالات رأي


العالم العربي قطع مسافة مهمة على طريق الحداثة، بينما العالم صار في مرحلة ما بعد الحداثة. وإذا كانت هناك قوى محافظة تقف في وجه المسار أو، أقلّه، تحاول إبطاء التحرك، فإن منظمات الإسلام السياسي الإرهابية تريد وقف التاريخ وإعادتنا الى ماض تراه مستقبل المنطقة والعالم. وهو ماض متخيل، وليس الماضي الذهبي حين كان النقاش العميق مفتوحاً على كل المواضيع بما فيها القضايا الإيمانية، والعرب يأخذون بثقافة الإغريق وفلسفتهم وحضارة بيزنطية وأدب الهند وفارس، ويطوّرون كل شيء ويوصلونه إلى أوروبا التي طوّرته أيضاً ودرست علوم العرب.

حتى ليوناردو دا فينشي، فإنه تأثر في فنه بـ “كتاب البصريات” للفيلسوف العربي ابن الهيثم، كما تقول المؤرخة الفنية فرانسيسكا فيوراني في كتاب جديد تحت عنوان، “ظلال الرسم: كيف علّم العلم دا فينشي أن يرسم”، والذي كانت ترجماته حاضرة عند الرسامين في القرن الـ 15.

فالغرب بدأ مسار التحديث بعد الخروج من ظلام العصور الوسطى، والشرق بدأ التراجع منذ أيام المماليك والسلاجقة والعثمانيين، ثم جاء الفكر الظلامي مع حسن البنا وسيد قطب وتنظيم الإخوان المسلمين وازداد ظلامية مع تنظيمات الإسلام السياسي السنيّ التي خرجت من عباءة الإخوان مثل القاعدة وتنظيم “داعش” والجماعة الإسلامية، ومع التنظيمات الأصولية الشيعية التي تدور في الفلك الإيراني، وبدأت الدعوات إلى الانقطاع عن العالم والتحذيرات من “الغزو الثقافي”.

وليس أخطر من العمليات الإرهابية سوى الفكر المريض الذي يحرّكها، فكر يرفض الحداثة ويعمل لفرض مشروعه بالسواطير والبلطات وكل أنواع الأسلحة التي تضمن بناء المستقبل بالحروب وقطع الرؤوس والذبح وسبي النساء، وإذا كانت الحرب على الإرهاب قد نجحت إلى حدّ كبير على الجبهة الأمنية والعسكرية، فإنها لم تتقدم كما يجب على الجبهة الفكرية، والأسباب متعددة، ليس بينها “قوة” الفكر الإرهابي. صحيح أن الحوار مستحيل مع جدار، والنقاش صعب مع الذين جرى غسل أدمغتهم وصاروا يعتقدون أنهم يملكون كل الأجوبة بعدما تجاوزوا مرحلة الأسئلة، لكن الصحيح أيضاً أن مواضيع النقاش حساسة، وهناك من يخشى اتهامه بالكفر أو الردة.

وليسوا كثراً، بين المثقفين من لديهم الجرأة مثل محمد أركون القائل، “تحرير السماء شرط لتحرير الأرض”، و”الخيال الديني له تأثير في المستويات التاريخية والاجتماعية والنفسية”، و”أيام النبي جرى رفض تعبير الدولة الدينية”، وهي الدولة التي يقيمها النظام في إيران، وتدعو إليها تنظيمات الإسلام السياسي السنيّ بالقتل، لا بل إن هناك من لا يجرؤ على ما قاله ابن خلدون قبل قرون، وهو أن “الفكر الديني يعوّق تشكل التاريخ، لأنه لا يسمح برؤية الأحداث إلا سبباً لعلّة خارجة عنها محكومة بعقل خارجي غيبي، مع أن الأحداث لها عقل يحكمها من داخلها”.

ذلك أننا نواجه تزوير الماضي وليس فحسب الحاضر والمستقبل، والتنظيمات الإرهابية تأخذنا إلى ماض خيالي لأن هناك تيارات عصرية فشلت في أخذنا إلى المستقبل وجعلت الحاضر كابوساً. أليس توظيف الإرهاب سلاحاً يستخدمه بعض الأنظمة؟ أليس الخيار الذي تطرحه أنظمة سلطوية فاشلة هو: نحن أو “داعش”؟ وماذا عن الحاجة الدائمة للفاشلين إلى أعداء و”مؤامرات” من أجل البقاء؟

الحل ليس البدء من الصفر تحت عنوان القطع مع الماضي، ولا التراكم من دون نقاش وغربلة ومساءلة التراث، فهما في النهاية وجهان لعملة واحدة هي بقاء الأزمة، ونحن في حاجة إلى التطور الهادئ على مراحل ضمن تصور واضح للمستقبل وما نعمل له في نهاية الطريق.