الجمهور ضد النخبة أو أشباح ترامب في وول ستريت

 

محمد سامي الكيال

نشرت شبكة CNN الأمريكية تحليلاً، جديراً بالتأمل، عن الهزة التي أصابت أسواق المال الأمريكية مؤخراً: مجموعة من البشر العاديين، التقوا على منتديات إلكترونية بسيطة، استطاعوا الإيقاع بأضخم الشركات العاملة في مجال المضاربات المالية، وتكبيدها خسائر بالمليارات. إنها «الترامبية» مجدداً، بحسب الشبكة الأمريكية، فمنذ فترة ليست بالقصيرة، بدأ كثير من الناقمين على المؤسسة، من أصحاب الميل الشعبوي، بالاعتقاد أنهم ليسوا أقل من النخب المالية والثقافية والسياسية، فحياتهم أفضل، ومنازلهم وأحياؤهم أكثر جمالاً ونظافة من المدن الكوزموبوليتية الكبرى، التي تهوى النخب سكناها، كما أنهم لا يفتقرون إلى الذكاء، والقدرة على الفهم والفعل، ولذلك فهم قادرون على التفوّق على المؤسسة، وخلخلة الأسس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات الديمقراطية. ويبدو أننا سنعاني طويلاً من تهديد هؤلاء الشعبويين.
اللافت أن CNN، وهي من المؤسسات التي تعتمد عليها مواقع التواصل الاجتماعي، للتصدي لـ»الأخبار الزائفة»، وتحديد الوقائع الصحيحة من الكاذبة، لم تجد حرجاً في اتهام مجموعة واسعة ومتنوّعة من البشر بـ»الترامبية»، بدون دليل، فالأشخاص، الذين نظّموا أنفسهم على الفضاء الافتراضي، لمواجهة عمالقة وول ستريت، لا ينتمون لتوجه سياسي أو أيديولوجي معيّن، وهم، على الأرجح، من مختلف المشارب والانتماءات، وكثير منهم قد يكونون غير مسيّسين أصلاً، والفعل، الذي قاموا به، قد يتفق مع التوجهات اليسارية أو الشعبوية، أو حتى الليبرالية الكلاسيكية، المعادية لتسلّط الشركات الاحتكارية، أو قد يكون، بكل بساطة، نتيجة نمط جديد من المنافسة في أسواق المال، بعد دخول عدد كبير من المستثمرين الصغار إليها، المستفيدين من التسهيلات التكنولوجية للتداول في البورصة. بكل الأحوال يبدو أن «الترامبية» صارت التهمة الأسهل، التي يمكن إلصاقها بأي شكل غير مألوف، أو لا يمكن ضبطه، من الحراك الاجتماعي.
إلا أن تحليل الشبكة الأمريكية لا يخلو من بعض الصحة، فمن حركة السترات الصفراء في فرنسا، مروراً باحتجاجات الفلاحين الأوروبيين، وصولاً إلى المظاهرات ضد إجراءات العزل والإغلاق، المتعلّقة بمكافحة فيروس كورونا، يُبدي كثير من الفئات الاجتماعية، المعادية للمنظومة القائمة أو المتضررة منها، القدرة على ابتكار فضاءات جديدة، وإن كانت مؤقتة، للتلاقي والتنظيم والحشد، وتظهر دوماً، بوصفها مناوئة لأساسيات الثقافة والأيديولوجيا السائدتين، وما تعتبرانه حقائق وأخلاقيات، لا يمكن الطعن أو التشكيك فيها، وبالتالي يسهل إلصاق تهم الشعبوية واليمينية والتأثر بنظريات المؤامرة، بكل المشاركين بتلك الاحتجاجات، والترامبية هي الاختزال الأكثر ابتذالاً لهذه التهم. فهل قدر الحراك الاجتماعي أن يكون مدجّناً ضمن التيار الأساسي، أو أن يصبح ترامبياً؟ وما الإمكانيات الفعلية لمساحات التلاقي، التي يبتكرها الجمهور، والتي يبدو أن كثيرين يحرصون على إغلاقها، كي لا تبرز منها أشباح ترامب؟

ضد اللغة العادية

تبدو أحداث وول ستريت الأخيرة نموذجاً بيّناً لإمكانيات التواصل في مساحة عامة باللغة العادية: أحد المستثمرين الصغار شرح، في فضاء عام افتراضي، الألعاب المالية، التي يقوم بها المستثمرون في البورصة، ومراهنتهم على أسهم الشركات الخاسرة، وصار بإمكان الناس، الذين فهموا أساسيات اللعبة، أن يتداولوا الأفكار والمقترحات، وصولاً لابتكار حيل جديدة، أحرجت المضاربين المحترفين، وأظهرتهم بهيئة الحمقى أمام بعض المبتدئين.
لا علاقة لهذا في الواقع بالترامبية، فاللغة العادية (بالألمانية Umgangssprache) لا تعني بالضرورة الكلام السوقي، أو المبسّط أو الانفعالي، الذي اشتُهر به الرئيس الأمريكي السابق، بل هي اللغة التي يكتسبها الأفراد اجتماعياً في الحياة اليومية، بشكل عفوي، المختلفة عن اللغات التقنية والمعيارية والعلمية، مثل لغات القانون والأديان المنظّمة والعلوم الطبيعية، التي لا يمكن اكتسابها إلا من خلال تدريب متخصص في مجال ما. وهي ليست أكثر بساطة ووضوحاً من اللغات المعيارية، بل على العكس، تتسم اللغة العادية بانفتاح كبير، يجعلها مجالاً لكل أنماط «الألعاب اللغوية»، وأشكال التورية والغموض وتعدد الدلالات، في حين تكون اللغات المعيارية أكثر دقة وتحديداً وانغلاقاً، بالنسبة للضالعين بها. كما تتميز اللغة العادية بأنها لغة عمومية ومشتركة، يتقاسمها كل أفراد المجتمع، ولذلك فهي قابلة لتداول الحجج والأفكار في الفضاء العمومي، للوصول إلى نمط من العقلانية «بين الذاتية» في عالم الحياة، بحسب الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس، الذي يؤكد أيضاً على قدرة اللغة العادية على امتصاص اللغات المعيارية، بواسطة لغة التعليم Bildungssprache، أي لغة المدارس ووسائل الإعلام والمؤسسات العامة، التي باتت بدورها لغة عمومية، بفضل التعليم الإلزامي، و»الانعطاف البنيوي في الحيز العام»، الذي حققته الثورات البورجوازية، بإنشاء مساحات عامة للتداول الثقافي والسياسي. يفهم البشر إذن مشاكل وتعقيدات عالمهم، ويتداولون الأفكار والحجج حولها، باللغة العادية، المعدّلة بلغة التعليم، التي تؤهلهم للتعاطي مع كل المسائل، بما فيها المقبلة من حقول شديدة التخصص، وبدونها لا يمكن أن توجد ديمقراطية أو حراك اجتماعي، وهذا بالضبط ما فعله مستثمرو وول ستريت الصغار الجدد: استطاعوا هزيمة المستثمرين الكبار، بعد أن فكوا شيفرة لغتهم الاختصاصية، وفهموا ما تخفيه من ألاعيب وحيل.

الوقائع البسيطة، التي لا يمكن التشكيك بها، غير قابلة لأن تحدد وحدها السلوك السياسي، فبناءً على الوقائع نفسها يمكن صياغة عدد غير محدود من الاقتراحات والبرامج والآراء. أما اعتبار كل معارضة أو تشكيك بالقرارات التكنوقراطية رفضاً للحقيقة، فما هو، في أغلب الحالات، إلا هجوم على الإمكانيات التواصلية للغة، التي تتيح للبشر بناء مواقف متعددة، وتداولها بحرية في الحيز العام.

بالنسبة لعالم الاجتماع الألماني هيلموت شيلسكي فإن «سياسات اللغة» أحد أهم وسائل التحكّم السلطوي، بعد أن عفى الزمن على العنف الجسدي المباشر، فـ«من يحدد الحقائق هو صاحب السيادة»، والهيمنة اللغوية هي الشكل الأساسي لاحتكار الحقيقة. ويشكك شيلسكي أيضاً بلغة التعليم، التي يراها، على خلاف هابرماس، خاضعة للهيمنة السياسية المباشرة. وبغض النظر عن الخلاف حول لغة التعليم، فيبدو أننا نشهد حالياً نمطاً خاصاً من سياسات اللغة: يتم إغلاق معظم المساحات العامة، التي يمكن فيها تداول الأفكار، وتقييد كل ما هو مشترك، وعلى رأسه اللغة العادية، بوصفها مليئة بأشكال التمييز و»العدوان المصغّر»، ويُعتبر النقد والتشكيك والاحتجاج، المُصاغ بها، تطاولاً شعبوياً على حقائق ثابتة ونهائية. يُسلب المجتمع حق تداول شؤونه بلغته، ويطالب بالخضوع، غير النقدي، لرطانة اختصاصية، مرتبطة بنمط من التحكّم السياسي التكنوقراطي. وضمن هذا الشرط من المتوقع أن يُرمى كل حراك اجتماعي، خارج عن السيطرة، بالترامبية.

حرب الوقائع

لا تعني قدرة المجتمع على تداول شؤونه باللغة العادية تجاهل الوقائع العلمية والاقتصادية الأساسية، إلا أن التحكم البيروقراطي- التكنوقراطي المعاصر يقوم على معارضة السياسة بالحقيقة: تتأسس السياسة، تعريفاً، على قدرة الفاعلين السياسيين على الاختيار بين بدائل مختلفة، أما الحديث عن وقائع، لا تترك إلا منهجاً واحداً للسلوك السياسي واتخاذ القرارات، فهو استخدام دوغمائي لمفهوم الحقيقة.
وبالفعل تُقدّم كثير من السياسات في أيامنا، من إجراءات الحظر والإغلاق، وحتى القرارات الاقتصادية والبيئية، التي قد تدمر الوجود الاجتماعي والاقتصادي لفئات عديدة، بوصفها الحل الوحيد، الذي لا يمكن معارضته، تحت طائلة الاتهام بالجهل والشعبوية، ومن مدينة طرابلس اللبنانية وحتى الولايات المتحدة، تشتكي السلطات من جهل البشر، غير الراغبين بالالتزام بما تقتضيه الحقائق.
الوقائع البسيطة، التي لا يمكن التشكيك بها، غير قابلة لأن تحدد وحدها السلوك السياسي، فبناءً على الوقائع نفسها يمكن صياغة عدد غير محدود من الاقتراحات والبرامج والآراء. أما اعتبار كل معارضة أو تشكيك بالقرارات التكنوقراطية رفضاً للحقيقة، فما هو، في أغلب الحالات، إلا هجوم على الإمكانيات التواصلية للغة، التي تتيح للبشر بناء مواقف متعددة، وتداولها بحرية في الحيز العام. لحسن الحظ، استطاع بعض رافضي الحقائق المتعالية ابتكار بدائل وأفكار جديدة، تمكّنوا من خلالها تغيير معادلات، كانت مستقرة لفترة طويلة، في أحد أهم مراكز النظام المالي في العالم.

فعالية الجمهور

يعتبر أنطونيو نيغري ومايكل هاردت أن الحيوية الاجتماعية سابقة لفعل السلطات، ويرفضان اعتبار ما يسميانه «الجمهور» Multitude نقيضاً للسلطة، إذ أنه لا يستمد تحديده الذاتي من تعارض جدلي مع آخر، وبالتالي فإنه قادر على الفعل، وابتكار مساحات وتركيبات اجتماعية جديدة، لا تتجه بالضرورة إلى تأكيد أو نفي التحديدات السلطوية، بقدر ما تسعى إلى تأكيد الاستمرار الحياتي وإطلاق الرغبة. تحاول السلطات، في ما بعد، تقييد وتنظيم الحيوية الاجتماعية، وتحديدها بحدود معينة، واستيعاب ابتكاراتها المتعددة. ووصل الأمر بنيغري وهاردت إلى اعتبار «امبراطورية العولمة» نفسها، بنمط إنتاجها المرن، ابتكاراً للجمهور، الذي تجاوز أطر الإنتاج التقليدية، وأبوية دولة الرفاه في الغرب.
تستند حيوية الجمهور إلى ما هو مشاع ومشترك، ومنه اللغة، بكل ما تحويه من رموز ثقافية وإمكانيات تواصلية؛ والمساحات العامة؛ والملكيات المشتركة، ويبدو أن جانباً كبيراً من الصراع السياسي المعاصر قائم على تقييد الحيوية الاجتماعية، من خلال محاولة إلغاء المشاعات أو السيطرة عليها. فيما يعود الجمهور لابتكار أساليب جديدة، في أماكن غير متوقعة، ومنها وول ستريت نفسها. وبذلك تصبح استعادة المساحات العامة، وإعادة إنتاجها، الفعل الاجتماعي الأكثر ضرورة لأي محاولة للتغيير.

باحث سوري يقيم في المانيا