شعب «فلسطيني» زائد… أم «دولة فلسطينية» ناقصة؟

 

عماد شقور

قبل أربع سنين، نشرت لي جريدة «القدس العربي» مقالا بعنوان: «كتاب مفتوح، لم يرسل، إلى الرئيس الأمريكي ترامب». وكانت الفقرة الأولى في ذلك المقال: «هذا نص كتاب مفتوح لم يرسله الرئيس الفلسطيني، أبو مازن، إلى الرئيس الأمريكي الجديد، ترامب».
أعدت قراءة المقال، فوجدته معبّراً عمّا أردت كتابته اليوم. اعيد نشره دون أي تعديل، (باستثناء اسم الرئيس الأمريكي):
«السيد الرئيس جو بايدن المحترم
تحية طيبة، وبعد،
يسعدني، أن أبدأ كتابي هذا إليكم، بتمنياتي لكم بالصحة والسعادة والتوفيق، والنجاح في المساهمة الفاعلة، في جعل عالمنا أكثر استقرارا، وإزالة التوترات بين العديد من دول العالم وشعوبه، سعيا لعالم يسوده العدل والسلام، وفق ما بشرت به جميع الأديان السماوية التي انطلقت من وطننا فلسطين، مرددين الرجاء مع السيد المسيح، عليه السلام، لأن يتحقق ما بشّرنا به، بكلماته الخالدة: «على الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
نعرف أنكم ستلتقون بعد ايام معدودة، مع رئيس حكومة إسرائيل، السيد بنيامين نتنياهو. وهي مناسبة لأن نضع أمامكم عددا من الحقائق الأساسية الخاصة بقضية شعبنا الفلسطيني، على أمل أن تنير الدرب أمامنا جميعا، وتمكننا من الوصول إلى حالة من الهدوء والاستقرار، والتطلع إلى مستقبل واعد للجميع، نمارس فيه من جديد دورنا في المساهمة في بناء الحضارة البشرية، اسوة بما كان لنا ولبلادنا المقدسة، عبر تاريخنا الذي نعتز به.
أولى هذه الحقائق، أن لشعبنا الذي يعاني من تشريد نحو نصفه خارج وطننا فلسطين، ويعاني نصفه الثاني من التمييز داخل إسرائيل، ومن الحصار الخانق في قطاع غزة، ومن الاحتلال في الضفة الغربية والقدس العربية، والخضوع لسياسة ابارتهايد وفصل عنصري، الحق الكامل في الحياة والحرية وتقرير المصير، كما حدده الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في مطلع القرن الماضي، وشكل دافعا وسندا قانونيا قويا، لنيل كل شعوب الأرض استقلالها، وقد تحقق هذا لجميع تلك الشعوب، مع استثناء واحد وحيد: شعبنا الفلسطيني.
الحقيقة الثانية هي وجود تناقض تام بين الأساسين اللذين تنطلق منهما الاستراتيجيتان: الاستراتيجية الفلسطينية الايجابية؛ والاستراتيجية الإسرائيلية السلبية. أساس الاستراتيجية الفلسطينية، التي أؤمن وأبشر بها، ومعي الغالبية العظمى من أبناء شعبي الفلسطيني وأمتي العربية، والغالبية شبه المطلقة لحكومات دول العالم وشعوبه، بما في ذلك بالطبع غالبية من الشعب الأمريكي، هو: «أن هناك دولة ناقصة في هذا الشرق الأوسط، هي دولة للشعب الفلسطيني، يجب إقامتها فعليا» إسوة بما هو حال كل شعوب الأرض. في مقابل ذلك نرى أن أساس الاستراتيجية الإسرائيلية، (في الغالب الأعم من حكومات إسرائيل، وحكومة نتنياهو الحالية بشكل خاص وفاقع) هي: «أن في هذا الشرق الأوسط، شعبا زائدا، هو شعبنا الفلسطيني، الذي لا يحق له أن يتمتع بتقرير مصيره، وأن يقيم دولته المستقلة».
هكذا هي اذن المعادلة التي يتوجب التعاطي معها، والتقدم بحزم لحلها، إنها معادلة: «شعب زائد» يجب ازالته، ام «دولة ناقصة» يجب اقامتها.
غني عن القول، أن شعبنا الذي بدأت معاناته منذ أكثر من قرن من الزمن، ولم يستسلم، لن يستسلم في المستقبل، مهما بلغت قسوة الاحتلال والاستعمار والظلم والاجحاف والطغيان الإسرائيلي، المرتكز على القوة العسكرية ودعم قوى عسكرية واقتصادية وسياسية عالمية كبرى، مهما طال عمر هذا الاحتلال والاستعمار ومداه.
أما الحقيقة الثالثة التي أرى أن من المفيد توضيحها لكم، وأنتم في الأسابيع الأولى لتوليكم مقاليد الحكم في الأقوى بين دول العالم، إن شعبي الفلسطيني، ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في شتى أماكن تواجده: في الوطن وفي دول اللجوء والشتات، قد أعلن بوضوح وجلاء، عام 1968، أن هدفنا الاستراتيجي هو اقامة دولة على كامل الأراضي الفلسطينية، من نهر الأردن حتى شاطئ البحر المتوسط، ومن المْطِلَّة ورأس الناقورة حتى ام الرشراش (ايلات) على خليج العقبة؛ دولة عصرية ديمقراطية، يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود، بمساواة تامة، ودون أي نوع من التمييز.
هذا الموقف الفلسطيني الرسمي المعلن، يثبت بشكل قاطع، تطلّع شعبنا الفلسطيني وقيادته الرسمية الشرعية، لمستقبل من «بناء الذات» لا لمستقبل من «هدم الآخر» مستقبل من السلام والاستقرار، لا مستقبل من الحروب والقتل وتخليد الصراع.

إن حل وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هو المفتاح السحري لبدء إنهاء كل مظاهر العنف في منطقتنا وفي العديد من المناطق الأخرى في العالم

إلا أن جميع حكومات إسرائيل لم تقبل بهذا العرض الفلسطيني الإنساني المتسامح. وانقسم الإسرائيليون في ايامنا هذه إلى فريقين شبه متساويي العدد: نصفهم يريدون ويعملون على السيطرة على كل أرض فلسطين؛ ونصفهم الثاني يريدون «الطلاق» مع الاحتفاظ بما تم اقامته من مستعمرات على أرض فلسطين، وتبادل تلك المساحات، جزئيا مع الدولة الفلسطينية، المقامة على 22 في المئة فقط من أرض فلسطين.
تستطيع، أن تؤكد لضيفك، السيد نتنياهو، قبولنا بأي من الحلّين: حل دولة للجميع على كامل ارض فلسطين التاريخية، او حل اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على 22 في المئة من أرض فلسطين، وفتح كل ملفات القضايا العالقة، ووضع حلول عملية حقيقية لها، تضمن لشعبنا حقوقه الشرعية، وتضمن للإسرائيليين الأمن والهدوء والاستقرار؛ من أجل أن ندخل معا عصرا جديدا من التعايش بسلام، عصرا خاليا من العنف والقلق، مع زوال الأسباب التي أدت إلى كل تلك المآسي.
لقد بذل رؤساء أمريكيون كثيرون من قبلك جهودا لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إلا أن كل تلك الجهود لم تثمر حلا ينهي الصراع، بسبب تعنت إسرائيل، ومواصلة استعمارها وجهودها الظالمة في الاستيلاء على الأرض وحرمان أصحابها منها، مستندين ومستغلين في ذلك، امتناع الرؤساء الأمريكيين من الضغط الجدي لالزام إسرائيل بانهاء استعمارها والتقدم بصدق، وصولا إلى أي من الحلّين الممكنين.
مع بداية عهدك رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، بالغ الإسرائيليون في سياستهم المتطرفة. ففي خلال أقل من ثلاثة اسابيع أقروا بناء آلاف جديدة من المساكن على ارضنا الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي عاصمتنا، القدس العربية، ومحيطها؛ وأقر البرلمان الإسرائيلي قانونا جديدا يجعل من مصادرة الأملاك الخاصة أمرا مشروعا؛ وتعهد السيد نتنياهو ببناء مستوطنات جديدة؛ واقتحمت الشرطة الإسرائيلية قرية ام الحيران في النقب تنفيذا لقرار مجحف بهدمها وطرد سكانها واقامة بلدة يهودية على انقاضها. هذه السياسة الإسرائيلية تستند إلى قناعة لديهم، إنكم تؤيدون هذا الاجحاف بحقوق شعبنا الشرعية والبديهية. وكلنا أمل أن تبدد هذه القناعة لدى ضيفك، وان تلزم إسرائيل بالتقدم خطوة حاسمة على طريق الحل الذي يضمن لشعبنا الحرية والاستقلال.
إن حل وانهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هو المفتاح السحري لبدء إنهاء كل مظاهر العنف في منطقتنا وفي العديد من المناطق الأخرى في العالم، ذلك أن الجذر الأول والأعمق للغالبية الأعم من تلك الصراعات، هو الظلم والاجحاف بحقوق شعبنا الفلسطيني.
انهي كتابي هذا اليكم، بتكرار تمنياتي لكم بالتوفيق، ولمواصلة شعبكم التقدم والازدهار.
مع التحية والتقدير».
قد يخطر على بال البعض التفكير بأنه قد مضت اربع سنوات على كتابة نص هذه الرسالة، في طبعتها الأولى، ولم يطرأ أي تطور ايجابي جوهري على الواقع المأساوي الذي نعيشه. هذا صحيح. لكن الصحيح الثاني ايضاً هو أننا كشعب فلسطيني، واجهنا عواصف وأعاصير اثارها الرئيس الأمريكي السابق، شملت العالم بأسره، والكرة الأرضية ذاتها، وانحنت بسببها هامات عالية، وتنازلت بسببها دول وأنظمة حكم عربية، وغير عربية، عن مواقفها المبدئية، وظل الشعب الفلسطيني، رغم كل معاناته، متمسكا بكامل حقوقه المشروعة، التي أقرتها الشرعية الدولية.
ثم، من قال إن التحرك على الساحة الدولية بديل عن الضرورة المقدسة في ممارسة كل أساليب النضال الفعلي، على الأرض، لدحر الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي؟.

كاتب فلسطيني