“حين نجونا” تاريخ آخر لا يكتبه المنتصر

فاروق يوسف يمنح بغداد صوتاً لتبث أحزانها في سيرة مدينة

نشوة أحمد


للغة ألوان، وخطوط، ورائحة، وهذا ما بدا في لوحته السردية التي رسمها الكاتب العراقي فاروق يوسف بريشة الكلمات، عبر كتابه الصادر تحت عنوان “حين نجونا” عن دار خطوط وظلال (2020)، والذي يتناول عبره نوعاً من أنواع السير الأدبية، وإن تجاوز الخط المألوف منها بتنازل الذات عن دور البطولة لصالح المكان الذي غدا مركزاً محورياً للسرد، فجسد معالم بغداد؛ شخوصها، وتاريخها، وواقعها، كما تجلى في مرآة نفسه التي عكست مساحات شاسعة من سيرة المدينة، والتقطت من القبح قدر ما التقطت من الجمال.

بدأ الكاتب رحلته بالإشارة إلى رسالة يكتبها إلى نفسه، ربما ليتطهر ويخفف حمول نفسه، وربما ليعلن منذ اللحظة الأولى عن حرية يتمسك بممارستها عند توثيق سيرة مدينته واعتماده منهجاً وطريقاً مغايراً لا يسلكه عادة من داوم على طرق أبواب التاريخ، مؤكداً عبر اقتباسه الأول من “كلمات” للفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، واستدعائه قصة الطفل الهولندي “روبن” – الناجي الوحيد من حادث تحطم طائرة “إير باص” في مطار طرابلس راح ضحيته 103 قتيلاً – أن ما تنطوي عليه صفحات كتابه تاريخ يكتبه الناجون لا المنتصرون، لكن الناجين في مدينة كبغداد تجرعت من الأهوال عبر تاريخها ما يفوق قدرة مدينة واحدة على التحمل؛ لم يكن حالهم أفضل من الطفل روبن، يتشاركون المصير نفسه من الوحدة والتيه واليأس، وفي الجهة المقابلة للنجاة يكمن الخطر ويتوحش ليتجلى بوجود المعلم “العكرفي الأب” في الهامش، فتبيت المدينة في مرمى الخراب، ويصبح بُناتها في مرمى اليأس، وبذلك يصنع الكاتب ثنائية جديدة شذت عن فطرة الثنائيات المتقابلة، إذ منح النجاة والخطر ذات المذاق المر!

انطلق الكاتب في رحلته التي اخترقت التاريخ متجولاً بين شوارع بغداد، وأحيائها، وأزقتها، وكانت البداية من الطريق السريع “محمد القاسم”، حيث يقف ضريح الشيخ عمر السهرودي، وبعده الباب الوسطاني، صامدين على الرغم من تعاقب الغزاة (مغول وبويهيين وسلاجقة وصفويين وآذريين وعثمانيين وإنجليز)، ثم عرج في طريقه على أهم الرموز العراقية في فنون العمارة والخط، وشيوخ الصوفية وغيرهم من رموز ثقافية كبيرة صنعت حضارة وتاريخ العراق على مدى قرون.

تعدد الصيغ

نوّع الكاتب فيما اعتمده من أساليب سردية، مستخدماً السرد الذاتي تارة، ومصطنعاً ضمير المخاطب تارة أخرى، ما زاد من حيوية النص ومن قدرة المتلقي على التفاعل معه، كما أتاح عبر هذه الصيغة من التخاطب – وهي الأحدث في تقنيات السرد – مزيداً من الكشف عما قد تغفله “الأنا”، وهو أمر يوافق غاية السيرة والهدف منها وفكرتها القائمة على البوح واستكناه النفس، لا سيما حين يكون المخاطب ذات أخرى منبثقة من ذات السارد نفسها، تراها من الخارج، فيتبارى الاثنان ذوا الأصل الواحد في وصف المدينة وتوثيق تاريخها برؤية ومنهج آخرين يتجاوز المعتاد والمألوف.

Book cover (1).jpg

كتاب السيرة (دار خطوط وظلال)

“أنت هناك… لم تكن تتوقع أن يقول لك شخص ما هذه الجملة. فكل مكان لا تقيم فيه هو هناك. المكان الوحيد الذي هو ليس هناك هو المكان الذي تقيم فيه. الآن المعادلة مختلفة. أنت انتقلت إلى ذلك الـ(هناك)، وهو ما يسهل عليّ رؤيتك في شظايا مرآة ما باعتبارك أشخاصاً كثيرين، لا يكونون دائماً الشخص نفسه. أنت متعدد ووحيد في الوقت نفسه”، ص 11.

خصوصية الشخوص

استدعى الكاتب كثيراً من أسماء رموز عراقية في مجالات شتى، ما يشي بحالة من الزخم الثقافي والحضاري للمدينة، لكن أغلب هذه الأسماء لم يرد إلا في إشارات خاطفة، بل إنه اكتفى بذكر أسماء بعض الشخوص، وخصوصاً من السياسيين، من دون أي إشارة إليهم، مكتفياً بما تحمله تلك الأسماء من دلالات مبطنة. فعندما استدعى اسم ناظم كزار لم يفصح صراحة عن قيامه بمحاول اغتيال الرئيس العراقي الأسبق حسن البكر، ونائبه – في ذلك الوقت – صدام حسين، وعندما استدعى اسم عزيز الحاج لم يتطرق إلى حدث وثيق بالشخصية على اعتبار أنه كان من أبرز الشخصيات الشيوعية العراقية التي تعرضت للسجن أثناء حكم حزب البعث، وأثار جدلاً كبيراً حين جيء به من محبسه لإجراء لقاء مع التلفزيون العراقي أخبر فيه عن أسماء رفاقه الشيوعيين. وكذلك حين استدعى اسم حسين كامل لم يتطرق لكونه زوج ابنة الرئيس صدام وصاحب محاولة الانشقاق عليه. وعلى النقيض من ذلك أفرد الكاتب مساحات أكبر لشخوص لا يعرفها التاريخ، منها “عبد الحق”، ذلك الخياط الباكستاني الذي كان – بحد وصفه – مصبّاً تنتهي عنده حكايات المدينة، والذي شارك الراوي والطفل الهولندي المصير نفسه، وهو النجاة، والشعور نفسه بالوحدة طيلة عشرين عاماً قضاها في العراق هارباً من كشمير بسبب جريمة لم يرتكبها، وهو في مرآة الراوي معلم من معالم بغداد التي كانت ملجأً وملاذاً للفارين من قسوة العالم، وإن تجرعت مثلهم القسوة ذاتها، لذا كان غياب “عبد الحق” سبباً لأن تفقد المدينة جزءاً أصيلاً منها، بينما فقدت بقية أجزائها جراء طوفان القتل الذي زحف عليها، ما رسخ لدى الكاتب قناعة بأن بغداد لن تتغير لأنها لم تعد موجودة.

المرأة والمدينة

كان حضور المرأة خلال سيرة المدينة مرادفاً لحضور الجمال، ما يشي بفلسفة الكاتب التي تعتبر أن الجمال دوماً أحد تجليات الأنوثة. وهو ما بدا في ارتباط النساء داخل النص بأحياء بغداد الجميلة، وبحالة البهجة التي تخللت مناخاً عاماً من اليأس والإحباط، مرة مع سعاد، الفتاة الأرستقراطية الشيوعية في حي البتاوين، ذلك الحي الذي احتفظ بالطراز البابلي ففاحت منه رائحة التاريخ. ومرة ثانية مع الزوجة في أكثر أحياء بغداد إلهاماً ورفعة، وهو حي الأعظمية؛ الحي البغدادي القديم. ومرات مع “حمامات” أخرى من نساء المدينة في أكثر أحيائها سحراً. وعلى الرغم من أن النص لم يخلُ من انتقاد صفات بعينها في شخصية العراقي، فإنه في الوقت ذاته وثق صفات بغدادية أصيلة من الكرم والعطاء والزهد، ولم يخفِ الكاتب أيضاً إجلالاً للمرأة العراقية، وأبرز تميزها عن غيرها من النساء.

“المرأة العراقية متقشفة وزاهدة وتعشق الكلمات. كل ما ترغب فيه أن تشعر بصدق من يغازلها. يكفيها أن ترى تحت القدمين أرضاً حقيقية لكي تمشي إلى الحافات من غير أن تشعر بالخطر. شيء من الشعر يتخلل نظرتها الواقعية ليجعلها قريبة من الكائنات التي تمتحن الوقائع قبل حدوثها. المرأة العراقية بحدسها هي نوع من المعجزة”، ص 37.

لم يتقيد الكاتب بخط أفقي متتابع في السرد، وإنما ظل يتجول بين الحاضر والماضي في الخفة ذاتها التي كان يتجول بها بين شوارع وأحياء المدينة، سواء الجميلة منها، أو تلك الأزقة التي لا تعرف بغداد، ولا تشبهها. وكان في تجواله يرسم بلغته المشهدية الفائقة؛ صوراً تحفز العين على رؤية ما لا تدركه، واضعاً أحياءً مثل الأعظمية، والعطيفية، وباب المعظم، والبتاوين جسر الشهداء، وشارع النهر، وبارك السعدون، وحتى الأزقة الضيقة والسلالم المتهدمة والنوافذ المغطاة بصفائح الحديد الصدئ؛ واضعاً إياها جميعاً في مرمى البصر. وكذلك تسلل مرات إلى عصور الخلافة العباسية واخترق مناطق مضيئة ومظلمة من تاريخ المدينة، متوقفاً عند فترة الحصار الاقتصادي الذي طوق به المجتمع الدولي عنق العراق في مطلع تسعينيات القرن الماضي (1990)، ثم ابتعد إلى ما قبلها، إلى سنوات أجمل من تاريخ المدينة؛ عاشت خلالها حالة انسجامها الكوني، فكانت متعددة وواحدة بلا نعرات طائفية، ولا انقسامات مذهبية، ولا فرقة، ولا شتات. وتبرز نقلات الكاتب المكانية والتاريخية حالة من النوستالجيا الممزوجة بالشعور بالذنب؛ والحنين إلى الهوية والوطن القديم، وقد تجلى هذا الحنين في غير موضع من النسيج، ولم ينتهِ عند حدود حالة الانسجام والتآلف بين طوائف العراقيين وحسب، وإنما امتد إلى كل تفصيلة من تفاصيل المدينة؛ كتبها، وأصواتها، وأعراسها، وأسواقها، وطعامها.