الصمت يخيم على منازل الاردنيين وبعض العائلات لاتعرف احوال بعضها البعض

 يتصدر الصمت المشهد في كثير من البيوت، وكأنه اللغة الوحيدة المتداولة بين أفراد الأسرة الذين أصبحوا يجهلون أخبار بعضهم، وغير قادرين على الالتقاء والتفاهم والحوار.
الجليد المتراكم بين أمهات وآباء وأبناء، غلف كلماتهم بالبرود والملل، كما باعد من طول المسافات وجعلهم خاضعين لإيقاع الحياة السريع، ولذلك العالم الافتراضي بات تهديدا حقيقيا يتعلق به الكبير والصغير حتى وإن كان في كثير من الأحيان دون فائدة.
حوارات قصيرة جدا تخلو من المزاح والدفء، تقتصر في مجملها على الطلبات والالتزامات والتذمر والشكوى، هذا فقط ما بات يجمع الأبناء بآبائهم سامحين للتكنولوجيا بأن تسرق أجمل اللحظات وتعمق من غربتهم كأفراد عائلة واحدة وبدلا من أن يكون المرح والحب والمشاركة هو أساس ترابطهم، أصبحت تلك البيوت مأوى للصمت المريب ليس فيها روح أو حيوية.
صمت طويل بين أفراد أسرة أم كرم لم يكن يقطعه سوى المطالبة بتسديد أقساط المدارس والجامعات ودفع فواتير الماء والكهرباء وتأمين بعض المواد الغذائية. تقول “الصمت بات هو الحل للهروب من الأعباء المادية الكبيرة والمرهقة”.
وتلفت إلى أنه وبعيدا عن انشغال الجميع بهواتفهم الذكية، هناك سبب آخر يجعل لغة الحوار غائبة بين الأب والأم والأبناء هو التركيز على الأخطاء والسلبيات لكل شخص داخل الأسرة، ومحاسبته وربما أيضا محاكمته دون أن يكون له الحق في الدفاع عن نفسه أو توصيل رأيه، وهذا حتما يتسبب في خلق الغربة الروحية والفكرية بين الأبناء وآبائهم ويصبحون غير قادرين على فهم بعضهم.
وفي ذات الوقت تكثر المشكلات داخل جدران البيت وغالبا لا تتوقف عند هذا الحد بل تمتد إلى خارج البيت أيضا، فيسلك الابن في هذه الحالة طرائق قد تودي به إلى الضياع والخطأ.
 وتبين أن نوعية الأحاديث تلك هي بطبيعتها منفرة تفتقد للتفاهم وتقبل رأي الآخر وأكثر ما تعتمد عليه هو أن كل فرد منهم يحاول أن يثبت أنه على صواب، إضافة إلى استخدام أسلوب الأمر دائما والذي يلغي حتما وجود أي حوار يمكن أن يفتح.
وتؤكد أن النكد والانتقاد اللاذع إضافة إلى التعلق بالتكنولوجيا، كلها عوامل تشجع على التزام الصمت واتخاذه نمط حياة من شأنه أن “يبعدنا ولو بشكل مؤقت عن الهموم والواقع الصعب المتعب”.
الخمسيني أبو مجدي يجد أن الصمت يخيم على أغلب البيوت ويجرد أصحابها من الدفء والسعادة والقرب الحقيقي الذي تلتقي فيه الأرواح والمشاعر قبل الأجساد. يقول مع تنوع الحياة واتساعها وكثرة الضغوطات والمشاغل اليومية أصبح الجميع في آخر النهار يحتاجون فقط لأن ينعموا بالهدوء والتحلل من كل الأعباء والمسؤوليات لدرجة أنهم يتخلون عن الكلام لوقت ما ويلوذون للصمت ليريحوا أنفسهم ويستطيعوا استعادة طاقتهم مرة أخرى.
ويشير إلى أن الصمت مفيد كما الكلام، لكن شرط ألا يطول ويتحول إلى عادة مقيتة، لافتا إلى “أننا نفتقد في أحاديثنا الأسرية الكلام النوعي الذي يقال في وقته، فحواراتنا تقريبا تفتقر للانتقائية لهذا السبب تكون مملة ومكررة وبدلا من أن يبحث أفراد الأسرة عن مواضيع جديدة ومشتركة تهم الجميع يختارون الصمت ليحتموا به”.
ويتابع قائلا ليست الطلبات والالتزامات المادية هي فقط ما تربط الأسرة ببعضها بل هناك أشياء أخرى مهمة وهي ثوابت لإقامة حياة سوية لا يمكن الاستغناء عنها كالتفاهم والحب والاحترام والأمان والمشاركة وتبادل الآراء وتقبلها وإشاعة أجواء المرح والمزاح مع تأكيد أن الخلافات والضغوطات والهموم لا تزعزع استقرار الأسرة بل تقويها وتجعلها أقدر على الصمود والتأقلم مع الأزمات.
اللمختص النفسي الدكتور موسى مطارنة يبين أن الصمت الأسري هو حالة يوجدها التباعد العاطفي والفكري بين الأب والأم والأبناء، وهذا ناتج بالطبع عن إسقاطات وإشكالات سلوكية ونفسية تتسبب بدورها بانعدام التفاعل الاجتماعي بين أفراد العائلة الواحدة مما يؤدي ذلك إلى الاختناق النفسي.
ويضيف أن الصمت مشكلة تعانيها معظم الأسر اليوم، لذا لا بد من أن يفتش الوالدان عن طرائق لكسر ذلك السكون الذي يسيطر على حياتهم كعائلة عبر ايجاد أجواء أسرية دافئة وسوية فيها مساحة للحوار والنقاش والتفاعل وتبادل وجهات النظر برحابة صدر، هذا كله يساعد في إنقاذ الجميع من حالة البؤس والكآبة والإحباط التي يرسخها الصمت بين جدران البيت وبالتالي يسلبهم شعور السعادة والاطمئنان.
ووفق مطارنة، فإن الآباء والأمهات لديهم القدرة على إشاعة الفرح في شتى زوايا البيت وفي كل التفاصيل اليومية التي تجمع بينهم، وذلك له أهمية كبيرة في إبعاد الأبناء عن الانطوائية والعزلة حتى يكون باستطاعتهم مواجهة الحياة والانخراط مع الآخرين. ويؤكد أن الحوارات الأسرية يجب أن تكون قائمة على التنوع والتجديد وعدم اقتصارها فقط على الأمور المادية والطلبات ومن الضروري أيضا أن تدار هذه الأحاديث بهدوء واحترام وتفهم للأطراف الأخرى مع السماح للجميع بالتعبير عن آرائهم وأنفسهم.
كما أن على قطبي الأسرة الأب والأم ترسيخ ثقافة الحب والمشاركة والانتماء والتضحية والمساندة لأن ذلك كله يقوي من عضد الأسرة واستقرارها وبقائها متماسكة.
ويذهب المختص الاجتماعي الأسري مفيد سرحان إلى أنه وبالرغم من كل التغيرات، فقد وجد الكثيرون خلال جائحة كورونا ومع الاغلاقات ومنع التنقل وتوقف العمل، أن الأسرة هي الحصن والملجأ، وهذا يؤكد الأهمية الكبرى للأسرة.
وحتى تحقق الأسرة أهدافها، فلابد من إدامة أواصر المحبة والألفة داخل الأسرة، وأن يكون التفاعل دائماً ومستمرا بين أفرادها، وأن تسود فيها لغة الحوار لأنه المدخل الصحيح للتفاهم والانجاز وتجاوز المشكلات، وهو الذي يقوي ويمتن العلاقات بين أفراد الأسرة.
ويبين سرحان أن الحوار ينمي قدرات الأبناء على الحوار والنقاش ويغرس فيهم قوة المنطق والقدرة على التعامل النافع مع الآخرين، ويزيد من ثقتهم بأنفسهم ويساهم في بناء الشخصية، مما سينعكس إيجابياً على علاقتهم مع الآخرين ويجعلهم اكثر قدرة على النجاح والإبداع.
كثير من الأسر بالرغم من اجتماعها تحت سقف واحد من حيث المكان، إلا أنها تعاني ضعف التواصل بين أفرادها والتباعد من حيث التفكير والاهتمامات، ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو عدم إدراك أهمية العلاقات الأسرية، ودورها الإيجابي على الجميع.
التباعد الأسري يأخذ اشكالاً متعددة، بحسب سرحان، منها الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، ومتابعة العلاقات الافتراضية مع الأصدقاء، حتى إن بعضهم يتواصل مع أفراد اسرته والمجاورين له في المكان من خلال هذه الوسائل، كما يتواصل مع أشخاص لا يعرفهم ولم يلتق بهم وتفصله عنهم مسافات كبيرة وربما في بلد آخر، وقد ينشغل بعضهم بمتابعة برامج التلفاز أو الألعاب الإلكترونية أو متابعة إنجاز بعض الأعمال الوظيفية.
وساهم التعلم عن بعد خلال جائحة كورونا في زيادة ضعف العلاقات حتى بين الإخوة الكبار والصغار، وأصبح جهاز الحاسوب أو الهاتف المحمول هو الملازم لهؤلاء، والمبرر في ذلك هو التعلم ومتابعة الدراسة.
ويلفت سرحان إلى أن اجتماع الأسرة “القريبة البعيدة” أصبح عند الكثيرين على مأدبة الطعام في أحسن الأحوال، والتي يتخللها أحاديث مقتضبة، يغلب عليها طابع الطلبات أو نقل الأخبار أو المعلومات، وما يلبث أن يعود الصمت يخيم على المنزل وينشغل كل فرد بنفسه. هذا النمط من الحياة أدى إلى مشكلات نفسية واجتماعية عند الكثيرين، وأضعف لغة الحوار داخل الأسرة.
وحتى يمكن التقليل من الفجوة داخل الأسرة الواحدة، من الضروري إدراك الجميع لأهمية الأسرة ودورها، وأن يتعاون الجميع لكسر حالة الصمت، ويمكن تخصيص أوقات محددة لجلوس الأسرة معاً للحوار والنقاش الداخلي، أو متابعة برنامج هادف شريطة أن لا يتم خلال هذا الوقت التواصل مع آخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
إلى ذلك، الحرص على كسر الروتين والتجديد والترفيه، ومناقشة موضوعات متنوعة تهم كل أفراد الأسرة والمشاركة في اتخاذ القرارات والخروج في نزهات أو رحلات أسرية، وإذا مارست الأسرة الحوار والتفاعل بين أفرادها، فإن الجميع سيدرك أهمية ذلك، فهو يزيد المحبة والألفة ويقلل من حدوث المشكلات، ويساهم في بناء شخصية الأبناء ويشعر الجميع بالمسؤولية، ليسهموا في استقرار الأسرة ونجاحها.
ويرى سرحان أن غياب الحوار والتواصل يؤدي إلى تفاقم المشكلات الأسرية، والبحث عن علاقات خارج الأسرة. وكانت فترة الحظر فرصة لكثير من الأسر لإعادة ترتيب أمورها الداخلية، وتقوية علاقاتها وتجاوز السلبيات السابقة، حيث اجتماع الأسرة لفترة طويلة أدركوا فيها الحاجة للتواصل المباشر، وكانت الأسرة مؤسسة متكاملة، ووحدة اجتماعية يعود نفعها ليس على أعضائها فقط، بل امتد ليشمل الجيران والأقارب بتقديم العون والمساعدة للآخرين فالظروف الصعبة أشعرت الجميع بالقيمة العظيمة للأسرة، وأدركوا أنها فعلاً نواة للمجتمع التي يمكنها القيام بغالبية الوظائف، إذا أحسن أفرادها القيام بدورهم.الغد