هكذا عاش “ابن خلدون القرن العشرين” في غوطة دمشق ووصفها


كرد علي شاهداً على التغيرات الجذرية في منطقة سورية عشقها

إبراهيم العريس باحث وكاتب


بعد سنوات صاخبة امتلأت موتاً ودماراً، وطوف خلالها ذكر المنطقة المحيطة بالعاصمة السورية والمسماة “غوطة دمشق” أربع زوايا الكون بأسوأ الأخبار، هدأ كل شيء في السنوات القليلة الأخيرة، وغابت تلك الأخبار، لكن ما لم يغب كان اسم تلك المنطقة والفضول العام للتعرف عليها. وفي هذا السياق قد يكون السبيل الأفضل لذلك، الوصف الذي أورده في مقالة له الكاتب النهضوي محمد كرد علي الذي عاش ردحاً في “الغوطة”، وكان من عشاقها، على الرغم من أن أصله من مدينة الموصل العراقية.

بين دمشق وغوطتها

لقد عاش كرد علي في الغوطة إذاً، وكتب قبل نحو 100 عام من الآن نصاً جميلاً على هامش كتابه المرجع “خطط الشام”، الذي جعله يستحق لقب “ابن خلدون المعاصر”، وهنا مقتطفات من هذا النص ربما تكون قادرة على تبرير اللقب أسوة بما يفعل الكتاب. يكتب كرد علي “لا بد للباحث في دمشق أن يعرض الكلام على غوطتها، فالغوطة ودمشق لازم وملزوم، والغوطة ما أحاط بدمشق من بساتين وقرى، وسقي على الأكثر بمياه بردى ومشتقاته. يبدأ حدها من فوهة الوادي عند الربوة غرباً، ممتداً إلى المزة وداريا وصحنايا والأشرفية في الجنوب، وينتهي في الشرق بالريحان والشفونية، وفي الشمال بجبل قاسيون وسنير، ويشرف الجبل الأسود وجبل المانع على الغوطة من الجنوب، كما يشرف عليها جبل الثلج، أو جبل الشيخ من الغرب، ويحدها شرقاً إقليم المرج، ومن هنا تفتح حدودها فتحة طويلة حتى الحماد أراضي بادية الشام”.

“وفي الغوطة قرى كالمدن، ومجموع نفوسها لا يقل عن 100 ألف نسمة، وتربتها أجود تربة تسمد كلما أرويت؛ وفي الغوطة تجود جميع الحبوب والبقول وعامة الأشجار المثمرة، ما خلا النخيل والحوامض بسبب برد الشتاء. والغوطة تمون دمشق، ومنها أكثر مادة حياتها، ولولا الغوطة ما كانت دمشق. أتى لي في الغوطة 60 سنة، ولاقيت ربيعها وصيفها وخريفها وشتاءها، وما لقيت منها إلا نضرة وسروراً. أنعشني هواؤها، وأدهشتني أرضها وسماؤها، وما فتئت منذ وعيت أقرأ في صفحة وجهها الفتان آيات الإبداع والإعجاز. في ربوعها شهدت الطبيعة تقسو وتلين، وتغضب وترضى، وتشح وتسمح، فراعني جمالها وجلالها، وشاقني تجنيها ووصالها”.

شعب لم تقهره الكوارث

“أتى الجراد غير مرة على زرعها وثمرها، وسطت الحشرات على خضرها وشجرها، وأحرق الصقيع حبوبها وفاكهتها، وعدا الموتان على دواجنها وماشيتها، وطغى الماء على أدنى بقاعها، فأودى بما أنبتت وبسقت، وعادت هذه الأم الرؤوم تدر على أبنائها لبناً سائغاً، وتفيض عليهم من عطفها وحنانها كل جميل. عهدي بها ودِمَن عشرات المزارع الخربة، بما توالى عليها من نكبات الزلازل والسيول والأوبئة والمجاعات، إلى جانب ألوف الأفدنة تصبح بالدؤوب حدائق غلباً، وكانت بالأمس بين مستنقع وبيل، ومرج أفيح. في الغوطة قرى كبيرة تداعب، وقرى كبيرة لم يعف رسمها، وفيها أشجار لا تعيش غير بضع سنين، وأخرى مباركة يحسب عمرها بالقرون. همت بسحرها في سحرها، وبشمسها تأفل وراء شجرها، وراقني وابلها وطلها، ونداها وضبابها، وجليدها وجمدها، وثلجها وبردها، ودمقها وزمهريرها، نسيمها وأعاصيرها”.

“شاطرت القوم أفراحهم وأتراحهم، وكاثرتهم في مواسمهم وأعيادهم، ورأيتهم يلبسون الخلق البالي، ورأيتهم يلبسون الزواق الحرير، ورأيتهم يطعمون طيب الطعام وأمرأه، ورأيتهم لا يشبعون من خبز الذرة والشعير، راقبتهم في سكونهم وهوشاتهم، وفي تلاتلهم ومشاكلهم، وفي سعتهم وضيقهم، وعاشرتهم وسامرتهم، على نقص محسوس في تربيتهم، أدركتهم يستعيضون عن اللبن والطين والقصب والكلس في بنيانهم بالقرميد والآجر والحجر والأسمنت، وعهدتهم يمتطون الفره من الخيل والبغال والحمير، ويحملون أثقالهم على الجمال، ويجرونها بالثيران، ثم اتخذوا المركبات والعجلات، وركبوا الدراجات والسيارات”.

بين الأمية وقراءة الصحف

“أدركتهم تبيض الأمية وتفرخ في رءوسهم، ويعم الجهل كبيرهم وصغيرهم، وذكورهم وإناثهم، وما كانت عقول الأذكياء منهم تصل إلى أبعد من القرى المجاورة، واغتبطت أن صار بضعة في الألف من شبانهم وكهولهم يتلون الصحف والكتب، ويستطلعون طلع الأخبار، ويعنيهم النظر في المصالح العامة، ويظهرون في مظهر من يحاول مجاراة الزمن في حضارته، يستبدلون الأدوات الحديثة في الحرث والتذرية والعصر والاستخراج بأدواتهم القديمة التي جمدت على حالة واحدة لم تتبدل من عهد عاد وثمود، كل ذلك ببطء وتثاقل ليناسب اقتباسها قانون الزروع والغراس عنهم: تنمو بحرارة معتدلة، وإذا سقيت سقيت بمقدار”.

من السياسة إلى الفكر

ذلك ما كتبه كرد علي عن الغوطة، أما بالنسبة إلى سيرته فتقول، إنه تعرض بعد إعلان الحرب العالمية الأولى إلى التنكيل والاعتقال ضمن سياق حملات الاحتلال التركي الدموية على “أحرار العرب”. وكاد جمال باشا يعدمه أسوة بعدد كبير من المعتقلين لولا صدفة كشفت عن تقارير فرنسية تذكر أنه رفض التعاون مع الفرنسيين بسبب ولائه للحكم العثماني. وكان لهذا “الاكتشاف” وقع طيب على جمال باشا الذي استدعى كرد علي وأمره بأن يعيد إصدار جريدته “المقتبس” كما ولاه تحرير جريدة “الشرق”. حتى كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، التي شهدت عملياً نهاية حياته السياسية وبداية انصرافه شبه الكلي إلى العمل الفكري، لا سيما بعد تأسيس “المجمع العلمي العربي” في دمشق، ذلك العمل الذي تم خلال عهد الحكومة العربية الأولى وكان أبرز ما قام به في حياته. وإن كان ثمة في حياة محمد كرد علي ما يمكن اضافته، فهو كثير، منه مثلاً عمله الصحافي الدؤوب، وكتابه الفذ “خطط الشام” وكتاباته عن الاندلس ودمشق، وعن “أمراء البيان العرب”.

صحيح أن كرد علي قد شغف بالعرب وتاريخهم وحضارتهم، وكان من دعاة العروبة والإسلام، ومع هذا فإنه كان كردي الأصل، أصله من الموصل العراقية، لكنه ولد في دمشق عام 1876، التي سيتوفي فيها بعد ذلك بـ77 عاماً، أي عام 1953، بعد عمر حافل بالفكر والجهاد. ومنذ صباه أقبل على تعلم اللغات، فأتقن إلى جانب العربية، الفرنسية والتركية وشيئاً من الفارسية، ومال باكراً إلى الأدب والصحافة، حتى وإن كانت الظروف العربية العامة قد قادته في تلك الآونة إلى الانخراط في العمل السياسي.

ابن الثامنة عشرة رئيساً للتحرير

 كان في الـ18 من عمره حين تولى تحرير جريدة “الشام”، غير أن شهرته على الصعيد العربي لم تقم إلا حين بدأ يراسل مجلة “المقتطف” القاهرية، ويكتب فيها مقالات لفتت إليه الأنظار. ومن هنا حين سافر إلى مصر في 1901 أدرك أنه معروف هناك من قبل نخبتها الثقافية، فأطربه ذلك، وقرر أن يقيم في القاهرة فترة، حيث تولى تحرير جريدة “الرائد المصري”، لكنه عاد إلى دمشق، وهناك كان الأتراك قد بدأوا يكتشفون عمله في سبيل الاستقلال، فبدأوا يطاردونه، ما أعاده إلى مصر مرة أخرى، حيث اشتغل في تحرير صحيفتي “الظاهر” و”المؤيد” بعد أن كان قد تمرس في الصحافة تمرساً كبيراً في دمشق، حيث أسس مجلة “المقتبس”. وفي 1908، بعد الانقلاب الدستوري، نجده يعود من جديد إلى دمشق وقد امتلأ بآمال التحرر، لكن أمله في “الاتحاديين” سرعان ما خاب، وبدأ ينتقدهم حتى راحوا يضيقون عليه الخناق، فهرب مرة أخرى إلى مصر، ومنها إلى أوروبا التي عاد منها إلى دمشق، ولكن ليضطهد من جديد.

أسلوب حي واقعي

وخلال الاحتلال الفرنسي، شارك محمد كرد علي كوزير للمعارف، لكنه كان قد آلى على نفسه أن ينصرف إلى العمل الفكري. وهكذا راح يبتعد عن السياسة بالتدريج، ويهتم أكثر وأكثر بأعمال المجمع العلمي العربي، ويضع العديد من الدراسات والكتب في مجالات الأدب والتاريخ، وذلك قبل أن ينصرف في سنوات حياته الأخيرة إلى تجميع وضبط مذكراته التي كان يدون فصولها بشكل يومي. وهذه المذكرات التي صدرت في ثلاثة أجزاء قبل رحيل صاحبها، تعتبر بحق، نوعاً من التأريخ لمرحلة بأسرها من تاريخ المنطقة العربية خلال نهاية القرن الماضي والنصف الأول من القرن العشرين. ولقد قال عنه خير الدين الزركلي “كان ينحو في كثير مما يكتبه منحى ابن خلدون في مقدمته”، فيما كتب عنه سامي الدهان قائلاً “ولقد أكبره المعاصرون من كبار الأدباء، فرأوا أن كتبه في صميم الأدب وأن أسلوبه حي واقعي”.

اندبندت