إذا اصطدم “المعتقد” بـ”الواقع” تبرز “نظرية المؤامرة”
أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص في مجال الطاقة
الواقع أن الوضع البيئي لأغلب مدن العالم سيئ للغاية، وأنه يجب تخفيف معدلات التلوث وإصلاح ما يمكن إصلاحه، والآثار الصحية مكلفة كثيراً بشرياً ومالياً، الجميع يتفق على هذه الفكرة، وليس أنصار البيئة فقط.
والواقع أن هناك تغيراً في المناخ، والجميع يتفق على ذلك، والخلاف حول مسببات التغير المناخي، هل هو نتيجة الأعمال الإنسانية، أم أنه جزء من دورة طويلة تحصل كل عشرات الآلاف من السنين؟ أو أن المسببات هي جزء من دورة طويلة سرّعتها الأنشطة الإنسانية؟ كل فريق له أدلته القوية، وكل فريق يفند آراء الطرف الآخر.
والواقع أننا نريد كل مصادر الطاقة لمقابلة الطلب العالمي المتزايد على الطاقة نتيجة عوامل عدة أهمها الهجرة من الريف إلى المدن، وزيادة السكان، وانتشار أنواع متعددة من التكنولوجيا التي تُستخدَم يومياً وتتطلب شحنها بالكهرباء. كثير من الخبراء في مجالات شتى يتفقون على هذه الفكرة، إلا أن أنصار البيئة لهم رأي مختلف، فهم يرون أنه يجب وقف الاعتماد على بعض مصادر الطاقة، وزيادة الاعتماد على أخرى، والمشكلة الأكبر أن أنصار البيئة يريدون أن يختاروا مصادر الطاقة بغض النظر عن جدواها أو قوى السوق، ويستخدموا القانون لإجبار الناس كافة عليها.
والواقع أن سيطرة اليساريين في كثير من الدول، وتبني كثير من المعتدلين أفكاراً تتعلق بالتخلص من الطاقة النووية، يعني تناقضاً صارخاً بين ما يجبرون الناس عليه وما يحتاجه العالم، الأمر الذي سينتج عنه أزمة طاقة عالمية.
والواقع أن تجاهل اليساريين للمزيج الأمثل للطاقة لصالح الطاقة الشمسية والهوائية أدى إلى نتائج ليست في صالح المجتمع، وليست في صالح العالم ككل. فقد طلبت بعض الحكومات من بعض مزارع الرياح التوقف الكامل عن توليد الكهرباء، وصرفت لها مبالغ شهرية وكأنها تنتج بشكل عادي. كما بدأ التنافس بين مصادر الطاقة المتجددة نفسها، وبين المشاريع الجديدة والقديمة، الأمر الذي نتج عنه هدر كبير وأسعار سالبة.
الإعلام ومروجو الطاقة المتجددة يتكلمون عن هبوط هائل في تكاليف إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية والهوائية، ولكن أين آثار هذا الهبوط؟ الواقع أن أسعار الكهرباء في أكثر البلاد تحولاً للاقتصاد الأخضر هي الأعلى في العالم! ونرى الظاهرة نفسها في الولايات الأميركية، حتى تكساس، أكبر منتج للكهرباء من الرياح ارتفعت فيها فواتير الكهرباء!
بريطانيا عانت في الفترة الأخيرة من ارتفاع تاريخي في أسعار الكهرباء. لأن الطاقة المتجددة لم تولد الكهرباء بشكل كاف. كاليفورنيا، الولاية المتطرفة بيئياً، التي تحاول الوصول إلى الحياد الكربوني في أسرع وقت، عانت من انقطاع متكرر في إمدادات الكهرباء مع ارتفاع كبير في أسعارها. المشكلة أنه على الرغم من كل ذلك، مازالت مدن كاليفورنيا في قائمة أكثر المدن تلوثاً في الولايات المتحدة.
بعض البلاد وعددها قليل، ربطت أسعار المستهلك بأسعار السوق، لهذا، عندما تعصف الرياح ليلاً وقت انخفاض الطلب على الكهرباء، تتحول أسعار الكهرباء إلى السالب، ومن ثم يستطيع المستهلك أن يستخدم ما يريد من الكهرباء ويحصل على مبلغ وإن كان بسيطاً، فوق ذلك، الفكرة في ظاهرها تبدو جيدة، ولكنها حولت بعض الناس إلى مجانين، يرفضون الاغتسال أو غسيل الملابس لأيام، ويشحنون سياراتهم الكهربائية بشكل يكاد يكفي حاجتهم اليومية الرئيسة بانتظار الأسعار السالبة. فإذا أعطاهم تلفونهم الذكي إشارة إلى أن أسعار الكهرباء سالبة غالباً بعد الواحدة ليلاً، يستيقظون راكضين في كل اتجاه لاستهلاك أكبر كمية من الكهرباء قبل أن تعود لأسعارها العادية، فهل هذه هي الحياة التي نريد بعد كل التقدم التكنولوجي؟
لهذا، إذا رأيت شخصاً يفتخر بأن الطاقة المتجددة في بلاده مفيدة بسبب الأسعار السالبة، أخبره بأنه أصبح عبداً لها تتحكم به كما تشاء، بما في ذلك أوقات نومه وأكله وعمله.
إذاً المشكلة الأساسية ليست في “التغير المناخي”، وإنما في محاولة “تجار” التغير المناخي السيطرة على الآخرين لتنفيذ ما يريدون، باستخدام القوانين والاتفاقات الدولية. فإذا ربطوا الأمر بالسياسة الخارجية يستطيعون التحكم بالتمويل من جهة، وسير التجارة الخارجية من جهة أخرى.
حماية البيئة كـ”دين” أو “معتقد”
مشكلة أغلب أنصار البيئة، وأغلبهم من البيض الأوروبيين بحسب ما تشير إليه البيانات، أن غالبيتهم جعلوا من حماية البيئة ديناً أو معتقداً، ومن ثم فإن من يشكك فيه كافر ومن ينقده كافر، ولهذا فهم يرون أن من يعارضهم لا يستحق النقاش وإنما الاتهام والشتم.
عندما تصبح الأحلام معتقداً أو ديناً لا يمكنك إيقاظ الناس. فإذا اصطدم “المعتقد” بـ”الواقع”، تبرز “نظرية المؤامرة!”.
وفي الوقت الذي يشتركون فيه بهذه الصفات، إلا أن بينهم اختلافات عدة. فالمتطرفون منهم يعادون الوقود الأحفوري بما في ذلك النفط، ومن ثم يرون أنه يجب إلغاؤه من الوجود، ويعادون كل من يعمل في هذه الصناعة، بما في ذلك الدول العربية المنتجة للنفط. ولكن في دراسة فاحصة لهؤلاء نجد أن أغلبهم يعمل في صناعات تعيش على العداء على النفط مثل الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، ما لم أستطع استيعابه حتى الآن هو كمية الحقد التي يحملها هؤلاء.
ومنهم من يؤمن فعلاً بحماية البيئة، وضرورة وقف التغير المناخي، إلا أن لديهم شعوراً بالفوقية، خصوصاً ملاك سيارات “تسلا”، وعندهم شعور أنهم أفضل من غيرهم، ومن ثم لهم الحق في إرشاد الناس، ولكن لا يسمحوا للآخرين بالكلام، ويهاجمون منتقديهم مباشرة ويتهمونهم بالجهل و”العمالة” لشركات النفط.
وهناك مجموعة ترى أن التغير المناخي يتطلب الترشيد في استهلاك كل شيء، لهذا ترى أن لديهم ميلاً كبيراً للزهد و”التصوف” إن صح التعبير. عدد من يقول ذلك كبير، ومن يمارسه قليل.
ما يجمع هؤلاء شيء واحد وهو ليس البيئة، وإنما ضرورة التدخل الحكومي والسيطرة على سلوك الشركات والأفراد… وهذا هو الأمر المخيف في حراك التغير المناخي. هم يريدون السيطرة على “الآخرين” بالكامل. إنه نوع جديد من “العبودية”. يريدون إعادة برمجة البشر كي يكونوا “روبوتات” بشرية. المثير في الأمر أنهم يعارضون أي تكنولوجيا جديدة تسهم في حماية البيئة، ولكنها تعطي الناس حرية أكبر! لذلك تراهم يعارضون الهيدروجين ويهاجمونه بشدة، ويعارضون تحسين كفاءة محركات السيارات، ولكنهم يستخدمون تحسن الكفاءة عندما يخدم مصالحهم، ويعارضون التحول من الفحم الملوث للبيئة إلى الغاز الطبيعي، أقل مصادر الوقود الأحفوري تلويثاً، كما يعارضون استخدام الغاز المسال كوقود، مع أنه أنظف وقود للسفن وناقلات النفط على وجه الأرض حالياً.
محاكمة شركات النفط بتهمة كونها مسؤولة عن التغير المناخي، هي طريقة أخرى للسيطرة… والهجوم المتواصل على الدول النفطية وقياداتها، طريقة أخرى للسيطرة، وتوجيه الاتهام لأوبك من وقت لآخر يصب في هذا المجال أيضاً.
محاولة السيطرة على إدارة مؤتمرات الطاقة حتى داخل دول الخليج، وتحديد من يشارك ومن لا يشارك، هي وسيلة أخرى للسيطرة، وترويج بحوث معينة وإخفاء أخرى، من طرق السيطرة.
مع هذه السيطرة يظن البعض أنه لابد من المسايرة، ولكن سيأتي الوقت الذي سيصنفون فيه ويهمشون. “البيئيون الجدد” (على نمط تعبير “المحافظين الجدد” في عهد جورج دبليو بوش) ليس لديهم أي خطوط حمراء.
سيطرة الوقود الأحفوري
ما لا يدركه حماة البيئة، خصوصاً المتطرفين منهم، أنه لا يمكن على الإطلاق التخلص من الوقود الأحفوري. كما يحاولون إخفاء حقائق كثيرة، ويهاجمون من يكشفها.
فقد شن أوروبيون عليّ هجوماً شديداً على “تويتر” يتجاوز كل الأعراف المهنية، لأني ذكرت أنه لو حُولت كل السيارات في الاتحاد الأوروبي إلى سيارات كهربائية، وكانت كل الكهرباء التي تشحن بها هذه السيارات من الطاقة الشمسية والهوائية، فإن هذا سيخفض انبعاثات الكربون العالمية اثنين في المئة فقط. وشن علي أحدهم هجوماً بألفاظ نابية، مطالباً بالمصدر، وعندما أشرت إلى أنه هو المصدر ولى مدبراً من دون أن يعتذر.
يحاولون أن يخفوا حقيقة أن مشروع الرئيس جو بايدن لتحويل كل سيارات الحكومة الفيدرالية، وعددها 645 ألف سيارة، إلى سيارات كهربائية، سيخفض الطلب على النفط بأقل من 20 ألف برميل يومياً. لو عطس مهندس سعودي بجانب بئر نفط سعودي لغيرالإنتاج بـ20 ألف برميل يومياً. أقول ذلك على صيغة المبالغة، فقط لتبيين مدى المبالغة في الحاجة لهذه القرارات الرئاسية، والضجة الإعلامية التي صاحبتها، ونتائجها، وإذا نظرنا إلى كمية الانخفاض في انبعاثات الكربون لو حُولت كل السيارات الحكومية إلى كهربائية بحسب ما يريد بايدن، فإن انبعاثات الكربون العالمية ستنخفض بمقدار 0.05 في المئة. ولتوضيح هذه النسبة بالريال السعودي، فإنها تمثل جزءاً من 20 من الهللة!
الواقع أن بايدن لا يستطيع تغيير كل أسطول السيارات الحكومي، لأسباب عدة، أهمها أن أغلب السيارات من السيارات العائلية الكبيرة وشاحنات “البيك-أب”، ومثيلها من السيارات الكهربائية لا توجد بكثافة في الأسواق، وكما تقول التقارير الحكومية فإنها مرتفعة السعر، خصوصاً أن المواطن أو الشركات يحصلون على إعانات فيدرالية لشراء هذه السيارات، ولكن الحكومة الفيدرالية لا تعطي نفسها إعانات وعليها دفع السعر الكامل. إلا أن الجزء الأكبر من أسطول السيارات الحكومية تابع للبريد، ويمكن الانتقال إلى السيارات الكهربائية بسهولة.
ويحاولون إخفاء حقيقة اعتماد الدول الصناعية على الوقود الأحفوري في إجمالي استهلاك الطاقة، كي يظهروا نجاح برامجهم في مجال الكهرباء، إلا أن واقع الاعتماد على الوقود الأحفوري، على الرغم من الإنفاق الهائل على الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية، يشير إلى أن الواقع ليس ما يريدون، وهذه أرقام ذكر أغلبها في مقال الأسبوع الماضي:
هولندا 90 في المئة، اليابان 88.2 في المئة، الولايات المتحدة 81 في المئة، إيطاليا 80 في المئة، بريطانيا 78 في المئة، ألمانيا 75 في المئة، كندا 75 في المئة، إسبانيا 72.4 في المئة، بلجيكا 70.5 في المئة، الدنمارك 59 في المئة، فرنسا 46 في المئة (هي الأقل بسبب تبني الطاقة النووية). من ناحية أخرى، فإن اعتماد الصين على الوقود الأحفوري 88 في المئة، والهند 76 في المئة.
الفرق بين “زيادة الكفاءة” و”ترشيد الاستهلاك”
زيادة الكفاءة في إنتاج واستهلاك الطاقة تسهم في تخفيض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، من دون أن تؤثر سلبياً في مستوى معيشة الفرد، بل على العكس، قد تؤدي زيادة الكفاءة في الإنتاج والاستهلاك إلى تحسن دخل الفرد وخلق الوظائف ورفع معدلات النمو الاقتصادي.
ترشيد الاستهلاك والإنتاج هو تخفيض استهلاك الطاقة أو إنتاجها بهدف توفيرها، الأمر الذي يؤثر سلباً في حياة الفرد ورفاهيته، كما يؤدي إلى انخفاض مستويات الدخل ومعدلات النمو الاقتصادي ووقف المشاريع التنموية، بما في ذلك انتشار المدارس والجامعات والمستشفيات.
ما يريده حماة البيئة في أوروبا ما يلي: الأولى لهم، والثانية لبقية العالم! والله المستعان!