عام “السَخْنة” الأولى أسهم بنهاية العثمانيين والثاني استبدلهم بـ”هيمنة فارسية”
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
كانت الإنفلونزا الإسبانية أحد أسباب الهزيمة الساحقة للجيوش العثمانية شرق قناة السويس، أما كورونا بصيغتها الراهنة فجاءت لتجعل الفرس بديلاً عن حكام الأستانة.
لم يتحدث المؤرخون كثيراً عن وقائع وباء 1918 – 1919، ولم يتوسعوا في شرح انعكاساته، ولم تتضمن المذكرات الشخصية التي تركها من عاشوا تلك الأيام الكارثية تفاصيل وافية عن الجائحة التي ضربت العالم في حينه، والآثار المدمرة التي تركتها في مدنهم وقراهم، فأكثر الذين كتبوا، اهتموا بالجانب السياسي العسكري، وطغت أخبار المجاعة وموت مئات الآلاف بسببها، على رواياتهم ويومياتهم، وذهب الوباء إلى المقاعد الخلفية في سيرة التحولات الضخمة التي شهدها المشرق العربي.
مر قرن على الكارثة الصحية التي أسهمت في نهاية إمبراطورية بني عثمان، وفي رسم خرائط عالم ما بعد الحرب الأولى، وفي مشرقنا، أتاحت تلك الكارثة، والانتصار الساحق لقوى الحلفاء بقيادة الإنجليز والفرنسيين، قيام دول جديدة مستقلة ستعاني بعد 100 عام من جائحة مماثلة ستُظهر استبدال الهيمنة العثمانية بتلك الفارسية، التي دأبت منذ ثورة الخميني على التمدد غرباً في أراضي الإمبراطورية الراحلة، داعمة أنظمة وميليشيات تمهد لها سبل البقاء والسيطرة بأساليب لم تتبعها السلطنة ولا حتى الدول الاستعمارية التي ورثتها.
وأُطلِقَ على السنة التي انتشرت فيها الحمى الإسبانية اسم “عام السَخْنة”، وعرضت ورقة بحثية للنروجي (kjell lind)، جامعة لندن ساوث بانك، 2012، بعنوان “تأثير جائحة العام 1918 على سوريا الكبرى”، انعكاسات الوباء على القوى العسكرية ومجريات الحرب، مع تقدم القوات البريطانية، ورجحت وصول العدوى إلى مصر في سبتمبر (أيلول) 1918 بواسطة سفينة بريطانية أو فرنسية، ومنها انتقلت إلى يافا وبلاد الشام، وتربط الورقة بين احتلال المنطقة وطرد الأتراك، وانتشار الوباء الذي قضى في الأثناء على قوة الحجاز العثمانية بقيادة فخري باشا، فاستسلم بسببه وليس نتيجة موازين القوى العسكرية فقط.
بعد قرن، اجتاح وباء مُشابه في كثير من التفاصيل أنحاء العالم، وطرحت أسئلة كثيرة حول التأثيرات التي سيتركها على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لبلدان الكرة الأرضية.
انخرط العالم في محاربة الوباء، الدول المتقدمة بذلت جهوداً في تمويل الأبحاث لتأمين لقاحات جديدة، وانتظرت دول أخرى أن يحين دورها في الحصول على الترياق، لم تؤد أُممية الوباء إلى أممية كافية في مكافحته، على الرغم من المواقف التي جرى التعبير عنها في المنظمات الدولية والإقليمية، وإنما ازداد انكفاء البلدان على نفسها، وصارت السياسة الحمائية عنصراً في التعامل مع الجائحة.
في الدول الديمقراطية، اضطر بوريس جونسون رئيس الحكومة البريطانية إلى اعتذار علني عن “تسببه” بمقتل آلاف من مواطنيه، وكان سلوك الرئيس دونالد ترمب تجاه الوباء واستخفافه به أحد أسباب هزيمته أمام الديمقراطي جو بايدن، الذي جعل من محاربة كوفيد-19 أولوية متقدمة في برنامجه، لكن الوباء لم يمنع دولاً أخرى من تعميق هيمنة أنظمتها الفردية واغتنام خوف المواطنين وحاجاتهم لتأبيد سلطة القادة.
وسط اتساع الجائحة، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استفتاء على تعديل الدستور يتيح له البقاء في السلطة حتى سنة 2036، وفي بعض الدول كان احتواء الوباء مرادفاً للقمع والتضييق على الحريات العامة، مع غياب ملحوظ للخدمات التي قدمتها دول أخرى لمواطنيها في ظروف الحجر والإقفال.
لم يفتح الوباء في المشرق أبواباً للتغيير الجذري والتقدم، كما حصل في نهاية الحرب العظمى الأولى، كان المرض في حينه عاملاً مساعداً في هزيمة إمبراطوريات وفوز أخرى، وولدت بلدان المشرق العربي من رحم انهيار العثمانيين والوباء القاتل، وقامت سلطات جديدة جهدت لنسيان مواسم الموت، لحساب تكريس أنظمة عششت فيها الأمراض.
وها قد وصلنا إلى النتيجة الحتمية لنسيان التاريخ، ففي عام “السَخْنة -2″، تتكرر تجربة الحمى الإسبانية من بيروت إلى دمشق وبغداد وصولاً إلى طهران مع فارق مثير للتأمل، في نتيجة التجربة الأولى، أُعطيت الشعوب جرعة أمل من دون لقاح مع تغيير واقع استمر 500 عام، أما في مواجهة الثانية، فقد جعل اللقاح الأجنبي مادة للصراع السياسي يواكب العجز والتخلف عن إنتاجه، وصارت الاستماتة للبقاء في السلطة عنواناً، من لبنان المنهار، إلى دمشق المشرذمة، إلى بغداد المُطيّفة، وصولاً إلى طهران الممسكة بتلابيب كل تلك الجهات.
لم يساعد الوباء الناس في إجراء تغيير في عيشهم، وإنما جعل طبقة فاسدة ميليشياوية في لبنان قادرة على الاستمرار، ورئيساً معزولاً في سوريا يستعد لتمديد ولاية سلالته 58 عاماً، وسلطة في بغداد تكافح في بحر متلاطم بين ميليشيات إيران وفتاوى المناسبات، وصولاً إلى جهاز ديني في إيران يمسك بكل هؤلاء، ويتهيأ لـ”انتخابات” توطد المشروع الإمبراطوري الفارسي تحت عباءة نظام مكرور منذ 42 عاماً.
لم يعدل عام كورونا في وجهة السياسات القائمة في نطاقنا، مع أنه كشف كثيراً من عوراتها، ولا بد من أن يأتي يوم يتحول فيه ذلك الكشف إلى قوة تغيير، وسيتم ذلك بسرعة القرن الـ21، وليس بمقاييس بدايات قرن مضى.
المقال يعبر عن رأي الكاتب فقط
اندبندنت