نظرات وعبرات | 10 سنوات على الربيع العربي: (1) في بئر الأسرار

محمود عبد الهادي

محمود عبد الهادي كاتب صحفي وباحث

10 سنوات مضت على ثورات “الربيع

العربي”، 10 سنوات من القتل والدمار والاعتقال، 10 سنوات من التشرذم والشقاق والخلافات، 10 سنوات من الانهيارات المتلاحقة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، 10 سنوات من العقم والعجز والفشل في إيجاد حلول واقعية لمعالجة النتائج والآثار التي خلفتها هذه “الثورات”.

10 سنوات إضافية من الاستبداد والإرهاب السلطوي المتستّر بشعارات زائفة عن الديمقراطية والتحديث والمحافظة على الحريات العامة وحقوق الإنسان، 10 سنوات من العمى والإعراض عن استلهام الدروس مما حدث، والقيام بالإصلاحات التشريعية اللازمة لإحداث الانفراج الداخلي، لا الإصلاحات التي تكرّس الاستبداد والفساد وتؤسس لمزيد من الكوارث والأزمات الحتمية في المستقبل القريب.

10 سنوات مضت على ثورات “الربيع العربي”، وما زال الشارع العربي العام يجهل حقيقة ما حدث، ولماذا حدث؟ ومن الذي يقف وراءه؟ وكيف استُدرجت الشعوب العربية إليه؟ هل كان ربيعًا حقًا أم خريفًا عاصفًا وشتاءً قارسًا؟ وما الثمن الذي دفعته المنطقة العربية من جرّاء ذلك؟

10 سنوات مضت وما زال الشارع العربي العام يجهل حقيقة ما حدث، ولماذا حدث؟ ومن الذي يقف وراءه؟ وكيف استُدرجت الشعوب العربية إليه؟ هل كان ربيعًا حقًا أم خريفًا عاصفًا وشتاءً قارسًا؟ وماذا كانت حصيلة الثمن الذي دفعته المنطقة العربية -وما زالت- من جرّاء ذلك؟ وهل نحن بانتظار ربيع آخر وموجة أخرى من الفوضى الخلّاقة؟ أم سنجد الحكمة التي تساعدنا على الخروج من هاوية الحريق والانهيار واستعادة الاستقرار؟

أسئلة حيوية كثيرة لا تزال تثير جدلًا في الأوساط العربية النخبوية والشعبية، بسبب ما يعلوها من غبار وجراحات وآلام ومآسي وانفعالات تسد الباب في وجه العقل، وتحول بينه وبين الرشد والحكمة.

بحثًا عن الحقيقة

حدّثني مدير أحد مراكز الدراسات في مصر أنهم أعدّوا تقريرًا في بداية أحداث “الربيع العربي” عن الدور الذي تقوم به منظمة “أوتبور” (Otpor) الصربية في تغيير أنظمة الحكم في عدد من دول العالم ومن بينها بعض الدول العربية، ونظرًا لخطورة المعلومات التي جمعوها ولأهميتها في ذلك الوقت، قدموا نسخة من هذا التقرير لجهاز المخابرات العامة المصري، وكانت مفاجأة كبيرة وصادمة لهم أن جهاز المخابرات العامة على دراية بهذا الأمر، وأنه يتابع منذ وقت مبكر ما تقوم به هذه المنظمة في مصر وفي غيرها.

هذه الواقعة تؤكد بصورة قطعية أن جهاز المخابرات المصري كان على اطلاع كامل بحقيقة ما يدور، ومع ذلك، ترك كرة اللهب تتدحرج هنا وهناك ليكتمل السيناريو. السيناريو الذي لم يكن جديدًا على الإطلاق، فقد جُرّب في دول عدة من قبل، محققًا نجاحات متفاوتة.

في مايو/أيار 2011 م، أنتجت شركة “جيرنيمان بيكتشر” (Journeyman Picture) البريطانية فيلمًا وثائقيًا بعنوان بزنس الثورة (The revolution Business) ذكر كثيرا من المعلومات عن دور منظمة أوتبور الصربية ومؤسسها سيرديا بوبوفيتش في تدريب مجموعات عربية عدة على إسقاط الأنظمة الاستبدادية بالطرق اللاعنفية، وقد استمر التدريب على مدى 3 سنوات قبل بدء ثورات “الربيع العربي”، وعرض الفيلم بكل وضوح مقاطع من المقابلات التي أجراها مع ناشطين عرب من بلدان عدة تلقوا هذه التدريبات، ومقاطع من الجلسات التدريبية وأخرى مع بوبوفيتش نفسه، ومع “جين شارب” صاحب الكتاب الملهِم لهذه الثورات “من الدكتاتورية إلى الديمقراطية”، ورغم أن الفيلم ظهر في اليوتيوب بعد أسابيع قليلة من سقوط نظام حسني مبارك في مصر، وكان مترجمًا إلى العربية تحت عنوان “مهنة صناعة الثورات العربية” فإن عدد مشاهداته لم تبلغ ألفي مشاهدة حتى الآن.

وقد استوقفني في هذا الفيلم أمران غريبان:

الأول: التجاهل الذي قابلت به وسائل الإعلامية العربية المتخصصة ذائعة الصيت وذات الانتشار الكبير، هذا الفيلم، رغم أهمية موضوعه، والمعلومات الغزيرة التي حشدها والتي تفتح الشهية الصحفية بشدة.اعلان

الثاني: غياب منظمة أوتبور وبوبوفيتش وجين شارب من الخطاب السياسي العربي، وعدم مطالبة الدول المتضررة من ثورات “الربيع العربي” باعتقال بوبوفيتش أو ملاحقته وإغلاق مؤسسته.

  • فمن هي أوتبور؟
  • ومن هو سيرديا بوبوفيتش؟
  • ومن هو جين شارب؟
  • وما علاقة هؤلاء بثورات “الربيع العربي”؟
    شارب في أوتبور

إن تصريحات المسؤولين الأميركان عن الشرق الأوسط الجديد، ودعم الديمقراطية وإطاحة الأنظمة الاستبدادية، أكثر من أن تحصى، خاصة منذ عهد الرئيس جورج بوش الأب وحتى الرئيس ترامب، ورغم أن تحقيق ذلك ليس أمرًا سهلًا، فإنه لا بد من أن يتم، لما ينطوي عليه من مصالح إستراتيجية متعددة للولايات المتحدة وشركائها.

في عام 1993 صدرت الطبعة الأولى من كتاب (من الديمقراطية إلى الدكتاتورية: إطار مفاهيمي للتحرر) لكاتبه د. جين شارب (١٩٢٨-٢٠١٨). جاء الكتاب في 90 صفحة وترجم إلى 34 لغة من بينها اللغة العربية، ويعدّ الكتاب مرجعًا عمليًا شاملًا لكيفية إسقاط الأنظمة الدكتاتورية بالطرق اللاعنفية، إذ اشتمل على 198 فكرة تنفيذية للقيام بذلك.

وكانت تجربة النجاح الأولى لتطبيق ما جاء في كتاب جين شارب في صربيا في الفترة 1998-2000 م، حين قام الشاب سيرديا بوبوفيتش بتأسيس منظمة “أوتبور” عام 1998 م مع مجموعة من طلاب جامعة بلغراد، مدعومًا من الولايات المتحدة، للعمل على إسقاط نظام الرئيس ميلوزوفيتش بالطرق السلمية، وقد نجحت أوتبور في تحريك الشارع الصربي، الذي تمكن من إسقاط النظام في أكتوبر/تشرين الأول 2000 م، ليتحول بوبوفيتش بعد ذلك إلى مهندس إسقاط الأنظمة الدكتاتورية بالطرق اللاعنفية في العالم، مستلهمًا جميع ما جاء في كتاب جين شارب.

وفي عام 2003 م أسس بوبوفيتش مركز “كانفاس” (CANVAS) لتطبيق الإجراءات والإستراتيجيات اللاعنفية، لتدريب الناشطين المعارضين للأنظمة الدكتاتورية في بلدانهم على كيفية إسقاطها بالطرق اللاعنفية، وقد استضاف مجموعات من أكثر من 50 دولة في العالم من بينها لبنان وتونس ومصر وفلسطين، وكان بوبوفيتش نفسه يدرّب المجموعات مواجهة أو عن طريق الإنترنت، مؤكدًا قوة كتاب جين شارب الذي يصلح لجميع المجموعات الراغبة في التغيير أو الساعية إلى فرض مطالبها المشروعة.

وسرعان ما طُبّقت الوصفة في كل من جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا ومولدوفا ولبنان قبل بدء ثورات الربيع العربي، تحت الشعار نفسه وباتباع الخطوات نفسها.

وسرعان ما أصبح بوبوفيتش نجمًا إعلاميًا وأكاديميًا، تستضيفه وتكتب عنه كبرى المؤسسات الإعلامية، ويحاضر في كبرى الجامعات والمنتديات الدولية، متحدثًا عن نجاحاته في التحول الديمقراطي بالطرق اللاعنفية، وفي 2017 م عُيّن رئيسًا لجامعة سانت أندروز في اأسكتلندا بالمملكة المتحدة، وأصبح مركز كانفاس منظمة متخصصة في التغيير بالطرق اللاعنفية، تقدم معلومات وندوات ومحاضرات وورش عمل ودورات تدريبية، ولها نشاط في 52 دولة حاليًا، ودرّبوا أكثر من ١٦ ألفًا من الناشطين، وكانوا مصدر الإلهام لـ126 حملة احتجاجية في دول متفرقة من العالم.

لمصلحة من؟

بعيدًا عن التحليلات التي تناولت علاقة جين شارب وسيرديا بوبوفيتش ومركز كانفاس بالمخابرات الأميركية، فإن المؤكد من المعلومات المتوفرة ما يأتي:

1.  أن جين شارب بروفيسور أميركي نشر كتابًا باسمه في كيفية التخلص من الأنظمة الدكتاتورية بالطرق اللاعنفية.

2.  أن أوتبور تلقت دعمًا أميركيًا في بداية تأسيسها، وأنها طبقت ما جاء في كتاب شارب.

3.  أن أوتبور تحولت على يد بوبوفيتش إلى مركز “كانفاس” لتطبيق الإجراءات والإستراتيجيات اللاعنفية لإحداث التغيير في عدد من دول العالم.

4.  أن “كانفاس” مؤسسة صربية محلية غير حكومية، أعلنت أنها تستهدف إحداث تغيير سياسي في دول عدة من العالم من بينها روسيا وإيران وفنزويلا. ومن غير المنطقي -على الإطلاق- أن تقوم مؤسسة محدودة المسؤولية والإمكانات، من تلقاء نفسها، بالتدخل الواضح والصريح في الشؤون الداخلية لدول تمتلك سيادة وعضوية في الأمم المتحدة.

5.  أن الثورات العربية التي حدثت كانت جميعها في دول مستهدفة من الولايات المتحدة الأميركية وشركائها.

6.  أن النتائج المترتبة على هذه الثورات جاءت جميعها في مصلحة الولايات المتحدة وشركائها.

هذه الخلفية السريعة تكشف لنا عن حجم التخطيط والإعداد اللذين سبقا انطلاق ثورات “الربيع العربي”، ولكنها لا تكشف لنا عن كل شيء، فلا يزال هناك كثير من المعلومات الحبيسة في بئر الأسرار تنتظر من يجلّيها، وفي كل دولة من دول “الربيع العربي” بئر.

الجزيره