فرنسا واستعمار الجزائر: لماذا الاعتذار عن جريمة حرب؟

بناء على طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جرى تكليف بنجامن ستورا، أحد كبار مؤرّخي فرنسا المختصين بالجزائر وماضيها تحت الاستعمار الفرنسي، بإعداد تقرير يتناول «الذاكرة والحقيقة» على جانبَي المتوسط. الرئيس الجزائري، في المقابل، بادر إلى تكليف المدير العام للأرشيف عبد المجيد شيخي بإعداد تقرير نظير يروي النسخة الجزائرية. ستورا كَلّف في تموز (يوليو) الماضي وأنهى تقريره، في وقت قياسي كما يتوجب القول، لكنه انتظر حتى 20 من شهر كانون الثاني (يناير) الجاري كي يستقبله ماكرون ويتسلم منه التقرير؛ الأمر الذي عكس مخاوف جدّية من أنّ قصر الإليزيه ليس مستعجلاً على فتح هذا الملفّ الحساس، في أوقات حرجة على الرئيس وحكومته، لا تتعلق بعثرات جائحة كورونا والتقصير الفادح بصدد اللقاح فقط، وإنما أيضاً في أجواء مناقشة قانون «الانفصالية» الذي تعددت تسمياته، وكذلك إصدار شرعة تخصّ الإسلام في فرنسا.
وقد اقترح ستورا قرابة 30 توصية، بعضها ملموس ويخصّ مناطق وسيطة بين ترميم الذاكرة (تسهيل إجراء أبحاث حول التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية وعواقبها، وكذلك حقول الألغام المضادة للأفراد خلال الحرب)؛ وبين المناورة حول أنساق الندم، مثل إقامة «مواقع للذاكرة» في أربعة مخيمات اعتقال للجزائريين في فرنسا (وإبداء مستويات ما من الندم كان قد بدأ أصلاً من اليمين الفرنسي المتطرف، من باب المداورة على الأسف الصريح). وبعضها الآخر رمزي صرف، ليس متجرداً من القيمة، مثل إعادة سيف الأمير عبد القادر، قائد المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، إلى الجزائر (وكان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي قد امتدح الأمير خلال خطبة عصماء، وأطرى إسلامه المعتدل ودفاعه عن المسيحيين في دمشق)؛ وتكريم المحامية الفرنسية الراحلة جيزيل حليمي، التي ناهضت حرب فرنسا في الجزائر، ونقل رفاتها إلى مقبرة عظماء فرنسا في البانتيون.
الأكثر حساسية، في يقين شخصي هنا بالطبع، أنّ تقرير ستورا لم يطالب فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاستعماري، وهذا أسعد الإليزيه وأنقذ ماكرون من حرج بالغ؛ ويفسّر، بذلك، ترحيب الرئاسة الفرنسية والتذكير بأنّ ماكرون، في سنة 2017 خلال زيارة إلى الجزائر وحين كان مرشحاً، اعتبر الاستعمار «جريمة بحقّ الإنسانية، وبربرية فعلية»؛ وإذا لم يكن هذا هو الأسف، فما الذي يعنيه تشخيص سلبي قوي للاستعمار مثل ذاك، رددت الأوساط المقربة من ماكرون؟ ولم يكن مستغرباً، استطراداً، أن يصف قصر الإليزيه تقرير ستورا هكذا: «إنه واحد من أعظم التقارير» و«ليس المطلوب تقديم الاعتذارات. والندم اغترار بالنفس. الإقرار هو الحقيقة. والحقيقة تُبنى بوسيلة الأفعال». في المقابل فإنّ رئيس الحكومة جان كاستيكس، سليل اليمين الفرنسي، تنفس الصعداء بدوره، هو الذي كان قد تساءل باستنكار (وليس تعليقاً على حكاية الجزائر، بل على علاقة فرنسا مع الإسلام، وبنبرة ذكّرت بخطاب جان ــ ماري لوبين دون سواه): «هل يتوجب علينا أن نجلد ذاتنا، وأن نأسف على الاستعمار، ولا أدري ماذا أيضاً!».

إنها «مشكلة عميقة» كما يقول ستورا، حول «تاريخ معقد» وليتها اقتصرت على حفنة مبشّرين بـ«فضائل» الاستعمار الفرنسي، في الجزائر وسواها؛ أو حتى بحفنة أخرى من القتلة والسفاحين، الذين لم يتردد ماكرون في وضعهم، حتى بصفة غير مباشرة، في خانة جرائم الحرب والبربرية

هذا رأي السلطة، وهو ليس مستغرباً البتة، بصدد ماضي فرنسا الاستعماري عموماً والشطر الجزائري الذي يُعتبر في عداد الأكثر بربرية خصوصاً؛ كما أنه منتظَر من ماكرون شخصياً، في السياقات الراهنة تحديداً، إذْ أنّ الانتخابات الرئاسية لعام 2022 احتدمت لتوّها، وتحضيرات الرئيس الفرنسي في استباقها تتعاقب بإيقاعات سريعة وعلى أكثر من صعيد، وهذه الملفات تحديداً تكمن في قلبها. فما رأي المؤرخ، ستورا نفسه، في استبعاد فكرة الاعتذار؟ في مقال، قصير نسبياً، اختار أن ينشره في صحيفة جزائرية ناطقة بالفرنسية، تحت عنوان «تقرير، ومنهج»؛ يبدأ ستورا بتذكير فرنسا حول «جهل كبير» بما يعنيه تاريخ الجزائريين «المعقد»: التزاماتهم السياسية السابقة، إيماناتهم الدينية المحفوظة، علاقاتهم الباقية مع اللغات العربية والفرنسية والبربر. تقريره، يقول، هو منهج «يفضّل التربية، والثقافة، ومعرفة الآخر، وكامل المجموعات المنخرطة في التاريخ الجزائري».
وإذْ يذكّر بمنجزاته الشخصية في تناول التاريخ الجزائري والفرنسي، ذي الصلة بالتجرية الاستعمارية تحديداً (وسجلّه في هذا وفير وغني ولامع، حقاً) فإنه يشير أيضاً إلى أنّ منهجه يحاكي ما سعى إليه جاك بيرك ومحمد أركون: «عن طريق المعرفة الملموسة، والمتعمقة، وتخفيف الخوف من الآخر، وخفض الاستيهامات، والنأي عن الذكريات الخطيرة التي تتنامى في كلا المجتمَعْين». وعلى نحو أكثر وضوحاً، كتب ستورا: «خطاب الاعتذارات لا ينبغي له أن يكون التلفظ اليوم بكلمات والتراجع عنها في اليوم التالي بصدد مشكلة عميقة»؛ بل ذهب أبعد حين افترض أنّ هذه، بالضبط، كانت المنهجية التي تبصّر بها «قدماء» الدفاع عن «القومية الجزائرية» أمثال مسالي وعباس وبن باديس، ممّن لم يتوقفوا عن الترويج للمعرفة، والبناء بقصد مواجهة التحديات التي طرحها المجتمع الجزائري.
والحال أنها «مشكلة عميقة» كما يقول ستورا، حول «تاريخ معقد» كما جزم هو نفسه في مقالته أعلاه، وليتها اقتصرت على حفنة مبشّرين بـ«فضائل» الاستعمار الفرنسي، في الجزائر وسواها؛ أو حتى بحفنة أخرى من القتلة والسفاحين، الذين لم يتردد ماكرون في وضعهم، حتى بصفة غير مباشرة، في خانة جرائم الحرب والبربرية. ماذا عن فيلسوف فرنسي وجودي حامل نوبل للآداب مثل ألبير كامو مثلاً، المولود في تخوم قسنطينة؟ هنا ما يقوله، وهو مذهل صاعق، عن الشعب الجزائري: «في ما يتعلق بالجزائر، فكرة الاستقلال الوطني ليست سوى صيغة تحرّكها العاطفة وحدها. لم تكن هناك أمّة جزائرية حتى الآن. واليهود والأتراك واليونانيون والإيطاليون والبربر سوف يحقّ لهم أيضاً أن يزعموا قيادة هذه الأمّة الافتراضية. وفي الوضع الراهن، ليس العرب هم وحدهم الذين يشكّلون الجزائر. إنّ حجم ومقدار الاستيطان الفرنسي، بصفة خاصة، يكفيان لخلق مشكلة لا تُقارَن بسواها في التاريخ. وفرنسيو الجزائر أبناء بلد أصلاء بدورهم، وبالمعنى الأقوى للكلمة. فضلاً عن هذا، فإنّ جزائر عربية خالصة لا يمكن لها أن تنجز الاستقلال الاقتصادي، الذي من دونه يكون الاستقلال السياسي محض وهم».
فلندع الفيلسوف، إلى الماريشال توما روبير بوجو (1784 ـ 1849) حاكم الجزائر ومجرم الحرب الأبكر ومحارب ثورة الأمير عبد القادر وصاحب الفظائع الأكثر دموية في إخضاع الجزائر، ومبتكر كهوف الغاز التي كان يحبس فيها النساء والأطفال ويشعل النار في مداخلها، وهذه ستعرفها التواريخ الاستعمارية والنازية اللاحقة تحت مسمى «غرف الغاز». لكنّ زائر العاصمة باريس سيجد تكريم الماريشال عبر جادّة طويلة تحمل اسمه في الدائرة 16 الأرستقراطية غالباً، وسيجد تكريمات مماثلة في مدن مثل بريست، أوسير، ليون، مرسيليا، أوبرفيلييه… زميله، الذي سيولد بعد رحيله بأقلّ من 70 سنة، كان الجنرال الفرنسي بول أوساريس أحد كبار سفاحي الشعب الجزائري؛ الذي لم يكن سعيداً بارتكاب جرائم الحرب فقط، بل توجّب أن يضع ثلاثة مؤلفات في التأريخ لها، وتفصيل وقائعها، بقصد تخليدها!
وذات يوم غير بعيد، مطلع العام 2020 تحديداً، كان ماكرون عائداً من إحياء إسرائيلي بذكرى الهولوكوست، حين صرّح بأنّ ملفّ حرب فرنسا في الجزائر «بمثابة تحدّ قائم أمامنا، يكتسب الأهمية ذاتها التي نظر بها جاك شيراك، سنة 1995، إلى المحرقة النازية». ويومها قامت في وجه الرئيس الفرنسي القيامة التي كانت، أغلب الظنّ، أحد دوافعه اليوم كي يمتنع عن الاعتذار من الشعب الجزائري؛ معتبراً، ربما، أنه أدلى بدلوه مراراً، فلم الاعتذار اليوم؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

صبحي حديدي