الطاهر بن جلون يروي مأساة اغتصاب القاصرات في المغرب

روايته “العسل والمرارة” مستوحاة من أحداث واقعية يلفّها الصمت

انطوان جوكي


إنها لقصة معتمة هذه التي يسردها الكاتب المغربي الفرنكوفوني الطاهر بن جلون في روايته الجديدة، “العسل والمرارة”، التي صدرت حديثاً عن دار “غاليمار” الباريسية. قصة عائلة مغربية من الطبقة الوسطى كان من المفترض أن تنال قسطها من السعادة والهناء لولا مأساة تصعقها في عقر دارها وتمزّق أعضاءها.

لسرد هذه القصة المستوحاة من أحداث واقعية، يحطّ بن جلون بنا في مدينة طنجة مطلع الألفية الحالية حيث يعيش الزوجان مراد ومليكة في قبو منزلهما الجميل داخل عزلة لا تقطعها سوى زيارة ابنيهما لهما من حين إلى آخر. مراد كان موظّفاً حكومياً نزيهاً يرفض أي رشوة لأداء عمله، لكنه لا يلبث أن ينضم إلى زملائه الفاسدين تحت ضغط زوجته التي لم يكن يكفيها معاشه المتواضع. هكذا تتفكك علاقتهما تدريجاً، قبل أن تنفجر إثر المأساة التي سيختبرانها ويلفّها صمت مطبق.

في قبو منزلهما، نرى مراد ومليكة، كل واحد في ركنه، وكأنهما ينتظران موتهما، وحين تدركهما الحياة، تشعل داخلهما مشاعر الغضب والكراهية واحتقار الآخر الذي بات غريباً. بالتالي، لا حديث بينهما إلا نادراً، ولتلطيف ألمهما، يستسلم كل واحد منهما لأفكاره وذكريات طفولته الجميلة في طنجة التي كانت في زمن غير بعيد حسّية ومليئة بالحياة. طفولة مراد طبعها ترنزيستور تلقّاه هدية من والده وساهم إصغاؤه إليه بانتظام في تشكيل ثقافته الأدبية والموسيقية. وتتذكر مليكة من جهتها، من طفولتها حفلات موسيقى الجاز التي كان والدها يأخذها إليها، والأفلام التي كانت تشاهدها في صالات العرض أيام الأحد. من خلال هذه الذكريات، يتبيّن لنا أن هذين الزوجين يتشابهان أكثر مما يظنّانه. ومع ذلك، نراهما في زمن الرواية كل واحد أمام تلفازه الخاص أو على فراشه الذي يبتعد مسافة كبيرة عن فراش الآخر.

صحيح أن زواج مراد ومليكة تقليدي تم ترتيبه على يد والدتيهما، لكن علاقتهما في البداية لم تكن خالية من الرغبات ومشاعر الحب. مشاعر باتت منسية اليوم وحلّت المرارة مكانها في ذلك القبو الرطب الذي قررا الاستقرار فيه بعد المأساة لاعتبارهما المنزل الذي يقع فوقه ملعوناً. لكن ما الذي حصل كي يتخاصم كل منهما مع نفسه، مع الآخر، ومع الحياة عموماً؟

الشاعر المزيف

على قارئ الرواية عبور فصول عدة يتناوب مراد ومليكة فيها على الكلام، قبل أن يتعرّف إلى ابنتهما سامية التي تبلغ 16 سنة وتبوح بأفكارها ومشاعرها وأحداث حياتها إلى دفتر يومياتها الحميم، بموازاة شغفها بالشعر وممارسته بانتظام. وبسبب هذا الشغف، لا ترتاب حين تلتقي أمام مدرستها برجل مسنّ يصدر صحيفة مخصّصة للشعر ويقترح عليها نشر قصائدها. رجل لا علاقة له بالشعر لا من قريب ولا من بعيد، بل هو في الواقع شاذ جنسياً يشتهي الفتيات القاصرات ويوقعهنّ في شراكه عبر وعدهنّ بنشر نصوصهنّ، ويفعل ذلك من دون أن يخاف العقاب أو يثير أي شك في المحيط الذي ينشط فيه. وحين تلبّي سامية دعوته وتأتي إلى داره، يضع مخدّراً قوياً في كوب الشاي الذي يقدّمه لها ويغتصبها. هكذا تغرق هذه الفتاة البريئة الواعدة بمشاعر الخزي وتنغلق على نفسها مصدومة. وبدلاً من الإفصاح عمّا حصل معها لوالديها، تخطّه بالتفصيل في دفتر يومياتها الذي سيكتشفانه… بعد انتحارها.

_couverture du livre.jpg

رواية “العسل والمرارة” بالفرنسية (دار غاليمار – باريس)

انطلاقاً من هذه المأساة، تنزلق حياة مراد ومليكة داخل ثقب أسوَد وينكشف جبن كل منهما وآفاته، فيسقطان معاً في حالة كراهية متبادلة وعميقة بقدر ألمهما. ويجب انتظار لقاء مليكة في المقبرة بمهاجر إفريقي شاب يدعى فياد، كي تتبدد قليلاً العتمة المتسلّطة عليها وعلى زوجها، إذ سيعتني هذا الشاب بهما برقّة مؤثّرة ويضمّد جروحهما ويعيد بعضاً من الحياة إلى منزلهما.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بن جلون سبق وعالج موضوع الاعتداءات الجنسية على القاصرين في كتابه “شرح الفلسفة للأطفال” (2020). ولكسر الصمت الذي يلفّ هذا الموضوع الطارئ في وطنه، قرر مقاربته مجدداً، وبشكل مباشر هذه المرة، لقول الجرح البليغ الذي تسببه هذه الاعتداءات على فتيات مثل سامية، وهي مراهقة حساسة لا يرى أحد حولها هشاشتها وحاجتها إلى العزلة والكلمات لإنقاذ نفسها من الملل ورداءة مجتمعها. فتاة لا تتحمل مشهد الفقر والجور في مدينتها وتتألم من تنامي عدد الشحاذين والأطفال المشرّدين في شوارعها، ولا يلبث كائن سافل أن يسلبها ليس فقط جسدها، بل روحها أيضاً.

حال الفساد

لكن “العسل والمرارة” ليست فقط سردية قتل فتاة بريئة بأبشع الطرق. فمن خلال البورتريه الدقيق الذي يخطّه لعائلة سامية، يعرّي بن جلون آفات كثيرة تنخر المجتمع المغربي، كالفساد المستشري في مختلف دوائره وطريقة تعامل المسؤولين السياسيين ومعظم الناس معه كمسألة عادية، لا بل ضرورية لحلّ مشكلة الأجور البائسة؛ وسطوة التقاليد والمحرّمات التي غالباً ما تؤدّي إلى التكتّم على جرائم فظيعة لتجنّب الفضيحة، كما سيتعامل والِدا سامية مع جريمة اغتصابها؛ والصعوبات التي يواجهها أولئك الذين يرضخون للزواج التقليدي المرتّب، من دون أن ننسى العنصرية تجاه ذوي البشرة السوداء التي تتجلى من خلال مُعاش الشاب الأفريقي فياد، أو الوضع السياسي للمغرب في عهد الملك الحسن الثاني حيث أي محاولة لممارسة السياسة كانت تُعتَبر “انتقاداً للملك”.

وعن طريق مقابلته قدر ابنيّ مليكة ومراد، منصف وآدم، يتناول الكاتب أيضاً موضوع الهجرة، كاشفاً رغبة الشباب المغربي في مغادرة وطنه لتجنّب ظروف العمل القاسية فيه أو انسداد الأفق أمامه. فبينما ينجح منصف في إنقاذ حياته وزواجه باستقراره في كندا، يجد شقيقه آدم نفسه مضطراً، للمحافظة على عمله، إلى تحمّل إذلال يومي على يد رب عمله الذي يسمح لنفسه بممارسة سلوك استعبادي على موظّفيه لأنه يمثّل السلطة، و”السلطة كي تتربّع تبدأ بهرس الآخرين”.

لكن قيمة الرواية لا تقتصر على الموضوعات الراهنة الكثيرة التي تقاربها وصواب معالجتها، بل أيضاً في لغتها الأنيقة والغنية بالألوان، على الرغم من سوداوية قصتها، كما تكمن في طريقة تشييدها على شكل جوقة أصوات “محطّمة، ميتة قبل أوانها، ومثقلة بالغياب والندم والشعور بالذنب”، أصوات تتناوب على الكلام وتغوص بنا داخل تخبّطاتها الداخلية وعذاباتها. تكمن أخيراً وخصوصاً في استثمار بن جلون مهاراته السردية والكتابية فيها لجعلنا نعيش حالة اغتصاب لا تطاق من أقرب مسافة ممكنة ونرى نتائجها الخطيرة على قاصر.