على الأرجح ستتكرر الصراعات القانونية بين الحكومات وشركات التكنولوجيا وسينعكس أثرها في أنحاء العالم
أندرو غريفين محرّر التكنولوجيا ومراسل العلوم
كان إعلان “غوغل” Google، الشركة الأميركية الإلكترونية العملاقة، أن قانوناً أصدرته أستراليا سيضطرها إلى قطع نتائج بحثها عن البلاد، تصريحاً دراماتيكاً ربما يكون في حد ذاته قادراً على تغيير مستقبل شبكة الإنترنت. لكن حقيقة أن في مقدور الشركة آن تدلي أصلاً بهذا الكلام تذكرنا بالمكانة غير العادية التي تحظى بها الإنترنت – ومدى خطورة الوضع، أياً كانت نتيجة الجدال القائم بين الطرفين.
بنبرة ندم ساقت “غوغل” حجتها، على شاكلة تحذير أكثر من كونه تهديداً، إذ قالت ميل سيلفا، المديرة الإدارية لشركة “غوغل” في أستراليا إنه “إذا كان مشروع القانون هذا، سيصبح قانوناً نافذاً، فلن يمنحنا أي خيار حقيقي سوى وقف محرك البحث “غوغل” في أستراليا”.
أما أستراليا فاكتسى ردها نبرة أكثر صراحة بقول سكوت موريسون، رئيس الوزراء، إن المشرعين في بلاده لن يخضعوا “لتهديدات”، فيما أشار سياسيون أستراليون آخرون إلى أن بلادهم تتعرض لمحاولة “ابتزاز”.
يأتي ذلك عقب تداعيات أخرى مهمة شهدتها العلاقة بين شركات تكنولوجية من جهة وحكومات بلاد عدة من جهة أخرى. وقد كان دونالد ترمب طرفاً في أكثر تلك الخلافات شهرة – من بينها محاولته الفاشلة حظر “تيك توك” TikTok في الولايات المتحدة الأميركية (بحجة الأمن القومي)، وتهديداته المتكررة بعزمه إصدار تشريع ضد “تويتر”، بعدما قيّد الموقع الشهير إمكان تداول تغريدات الرئيس الأميركي السابق أو الإعجاب بها، علماً أنها كانت لافتة في عدائيتها ودلالتها أيضاً.
حري بنا أن نتآلف مع اللهجة التي تطبع خلافات من هذا القبيل. يُرجح أن تشهد السنوات المقبلة نشوب معارك في سبيل المعنى الدقيق لشبكة الإنترنت ومستقبلها، يشنها مقاتلون أشداء لدرجة أننا في أغلب الظن سنجد أنفسنا جميعاً متورطين فيها، بطريقة أو أخرى.
في الواقع، النزاع بين أستراليا وشركة “غوغل” في حد ذاته تقني ومحدد، حتى وإن كان يطرح عواقب واسعة النطاق. أستراليا أصدرت أول نص تشريع في العالم من شأنه أن يلزم “غوغل” وشركات التكنولوجيا الأخرى دفع رسوم لوسائل الإعلام الإخبارية الأسترالية مقابل عرض محتواها في نتائج البحث، ومنافذ إلكترونية أخرى.
أما المآل الذي سينتهي إليه الخلاف، فقد يحدد كيف ستشكل بعض الوسائل التكنولوجية والسلوكات دعامة يستند إليها عمل الإنترنت مستقبلاً. تعود القضية، ولو في جزء منها، إلى الفكرة الفلسفية للمعنى الفعلي لرابط ما link: هل يجب أن تكون قادراً على مشاركة محتوى آخر بحرية، أم ينبغي على الناس أن يدفعوا رسوماً مقابل ذلك؟
كان ذلك الاعتراض الذي أثاره تيم بيرنرز لي، الذي أسهم باختراع “الشبكة العنكبوتية العالمية”، إذ قال إن الخطة “تخاطر بانتهاك مبدأ أساسي لـ”الويب” Web عن طريق المطالبة بدفع بدل مقابل رابط محتوى إلكتروني معين، يقود إلى محتوى آخر على الإنترنت” (رابط تشعبي). وكان لافتاً أن وجهة النظر عينها تقريباً أبداها فينت سيرف، أو “أبو الإنترنت” كما يُسمى غالباً، مع أنه نائب رئيس شركة “غوغل”.
والحال أن الأسلوب الذي ينتهجه الطرفان في خوض نزاعهما لا يقل أهمية وعمقاً عن الخلاف في حد ذاته. وربما ترسم خلاصة الأخير طريقة عمل الإنترنت. إنما من الجائز أن تكون نبرة الجدال بين “غوغل” وأستراليا عرضاً أولياً لكيفية البت في خلافات كهذه.
ليس مستبعداً أن خلافات من هذا القبيل ستنشأ مراراً وتكراراً، ذلك أن حكومات في مختلف أنحاء العالم تتطلع إلى إصدار تشريعات قانونية بشأن الشركات التكنولوجية العملاقة التي جمعت كميات هائلة من القوة والثروة في أحسن الأحوال، وفي أسوئها اتُهمت بتدمير الديمقراطية ورفاه الناس.
لكن نموذج “غوغل” شأن نموذج ترمب و”تيك توك”، يُبين أن الفوز في هذه الخلافات لن يكون يسيراً، وأنه من خلال مواقف كهذه، ليس من السهل على الهيئات التنظيمية والحكومات الارتكان إلى قوتها، نظراً إلى أن شركات التكنولوجيا تقف لها في الجهة المقابلة.
بلا ريب، تتمثل إحدى الصعوبات الرئيسة بالنسبة إلى الحكومات في أن لدى الناس نزعة إلى حب المنتجات التكنولوجية. يميل هؤلاء، على الأرجح، بشدة إلى الوصول إلى نتائج بحث “غوعل” أكثر من التعقيدات المتصلة برسوم الاشتراكات في الصحف، وسيكون من الأسهل عليهم انتخاب حكومة أخرى عوض إنشاء شركة “غوغل” جديدة.
أضف إلى ذلك أن الشركات التكنولوجية العملاقة تستحوذ على حضور مترامي الأطراف، إذ تمتد عملياتها إلى كل بقعة من الكوكب تقريباً. بالنسبة إلى “غوغل”، تعني مغادرتها أستراليا والتخلي عن جزء ضئيل من أعمالها؛ أما بالنسبة إلى أستراليا، فتعني خسارتها “غوغل” وعزلها عن جزء كبير من الإنترنت.
وهكذا، تُرك معظم الناس العاديين في موقف صعب، مع تحوّل المواقع الإلكترونية التي يستخدمونها لمتابعة الأخبار أو التواصل مع عائلاتهم، إلى أوراق مساومة في مفاوضات بقيمة تريليون دولار.
© The Independent