اليهود أسسوا إمبراطورية هوليوود ثم فقدوا سيطرتهم عليها


الأميركي نيل غابلر يرصد مصير الشخصيات والشركات التي أسست عاصمة صناعة السينما

علي عطا


“هوليوود إمبراطورية اليهود”، كتاب الصحافي الأميركي نيل غابلر NEAL GABLER، ترجمه المصري مصطفى الطناني، إلى اللغة العربية، وصدرت الترجمة عن دار الطناني للنشر والتوزيع في القاهرة. العنوان الأصلي للكتاب هو AN EMPIRE OF THEIR OWWN How the Jews Invented Hollywood، ويتحدث عن مؤسسي كبريات شركات الإنتاج السينمائي في أميركا: “يونيفرسال”، و”بارامونت”، و”فوكس”، و”مترو غولدن ماير”، و”إخوان وارنر”، ملاحظاً أنه لم تكن الأصول الأوروبية الشرقية فحسب هي أبرز صور التشابه بين يهود هوليوود، بل الأمر الآخر المشترك بينهم تمثل في رفضهم المطلق لماضيهم، ولذلك، صاروا يمثلون كياناً روحياً عميقاً مخلصاً لبلدهم الجديد؛ أميركا، أو بالأحرى للنموذج الموازي له، والذي اخترعوه وروجوا له في مختلف أنحاء العالم.

هناك أيضاً ميراث الفشل، فقد نشأوا في بيئة من الحرمان والعوز، وباستثناء أدولف زوكور، الذي لم يكن له أب معروف، كان آباؤهم يتنقلون من وظيفة لأخرى، ومن مكان لآخر، بلا استقرار، بحسب ما أورده المؤلف في مقدمة الكتاب الذي جاء في ترجمته العربية في 511 صفحة من القطع فوق المتوسط، ويتألف من جزأين، يحمل الأول عنوان “الرجال”، والثاني “إمبراطوريتهم”.

اخترع اليهود هوليوود، لكن جاء بعد ذلك وقت أحكمت فيه الإمبراطوريات المالية السيطرة على المركز الأهم لصناعة السينما في العالم، بإصرار جعل البعض يعتبره نوعاً من الاستيعاب غير المباشر لقدامى يهود هوليوود؛ الذين لم يستطع آباؤهم التكيف مع المجتمع الأميركي، فبعضهم – مثل جاكوب ماير – بحث عن العزاء في الدين، فأصبح يتردد كثيراً على المعبد اليهودي الجديد في سانت جون بنيو برونزيك، بينما وجد بعضهم الآخر – مثل والد وليم فوكس – الملاذ في النساء والخمر والقمار.

وبالحكم على الأمر من خلال حياة الأبناء وكلماتهم في ما ذكروه عنهم، كان لفشل الآباء أثر بالغ عليهم، فقد تحدثوا بكل الحب عن أمهاتهم اللائي تحملن الشقاء من أجل أبنائهن، بينما كانوا يؤثرون الصمت التام تجاه آبائهم، أو يتحدثون عنهم بلهجة عدوانية. وفي أفضل الأحوال كانوا يعتبرونهم “طيبين”، وفي حقيقة الأمر لا يعد هذا الوصف أكثر من مجاملة مزدوجة المعنى.

محاكاة الحياة الأميركية

عمل يهود هوليوود بصرامة على محاكاة الحياة الأميركية بكل دقائقها، حتى إنهم صاغوا حياتهم وفقاً للمعايير الأميركية للسلوك والحياة الاجتماعية. ومثل لهم دخول أميركا وقبولهم فيها بوصفهم أميركيين، تحدياً في بدايات القرن العشرين، حين كانت السياسة السائدة هي حماية مصالح أهل البلاد وتقديمها على مصالح المهاجرين، وبدأ الخوف من الأجانب يتخذ شكلاً مرضياً، وكان العامل المؤثر في دفع اليهود لتحقيق الاندماج في أميركا هو ذاته ما دفع من نصبوا أنفسهم مدافعين عن هذا البلد لمنع استيعاب اليهود بالمجتمع، حتى لا يفسدوه، ويلوثوه، بحسب تصوراتهم.

هوليوود غلاف الكتاب.jpg

الترجمة العربية للكتاب (دار طناني)

ومن خلف حواجز أقامها “حراس القيم الأميركية”، شاهد اليهود عوالم النبل والأرستقرطية والوجاهة الاجتماعية، لكنهم منعوا من دخولها، وكما يقول أحد المنتجين اليهود الذي تعرف عن قرب على من يطلق عليهم الأقطاب البارزين في عالم السينما والمال: “هذا هو المهم، فقد شعر آباء صناعة السينما أنهم بعيدون عن المصادر الحقيقية للقوة والنفوذ في البلاد، فلم يكونوا أعضاء في تجمعات الصفوة، وكانوا خارج دوائر النفوذ المالي العريق في نيو إنغلاند ووول ستريت ووسط الغرب الأميركي”. وهنا برز الدور الذي ستؤديه الأفلام السينمائية.

قدمت صناعة السينما آيات الود البالغ لهؤلاء اليهود، فلم تكن هناك حواجز طبقية في صناعة جديدة وسيئة السمعة في السنوات الأولى من القرن العشرين، وفي الواقع كان الواحد يستطيع أن يفتتح قاعة عرض بأقل من أربعمئة دولار. كما كان لدى اليهود مهارات خاصة أهلتهم للتوافق بسلاسة مع تلك الصناعة، ما منحهم مزايا جعلتهم يتفوقون على منافسيهم.

فمن جهة أتى هؤلاء من صناعة الأزياء ومتاجر التجزئة، ما يسر لهم تفهم ذوق الجماهير، كما أنهم كانوا بارعين في استشعار تحولات السوق والتجارة وطرق اكتساب الزبائن، وهزيمة المنافسين.

ومن ناحية أخرى، فإنه بحكم أنهم مهاجرون، فقد كانوا على معرفة وثيقة بأحلام وطموحات المهاجرين الآخرين وعائلات الطبقة العاملة، وهما جماعتان متداخلتان كونتا قطاعاً عريضاً من جمهور مشاهدي السينما، بالإضافة إلى كون اليهود بطبيعتهم أكثر تقديراً لأهمية الترفيه، وهكذا كانوا بحسب قول أحد المنتجين، يتوجهون لمتفرجين على شاكلتهم وما كانوا بعيدين عن فهم أحاسيسهم الفطرية.

إمبراطورية ابتدعوها

كان عليهم أن يبتدعوا قيم الإمبراطورية التي سعوا لإنشائها، وأن يبتدعوا كذلك أساطيرها وعاداتها. إمبراطورية يبدو فيها الآباء أقوياء، والأسر مستقرة، ويتمتع فيها الناس بالمرونة وسعة الحيلة، ولا تنقصهم الكياسة. كانت هذه أميركا الخاصة بهم، وربما كان اختراعها هو إرثهم الباقي. كان الخيال السينمائي علاجاً لمرارات حيواتهم السابقة المليئة بالأباء الضعاف والأسر الممزقة، تلك الحيوات التي تنقصها المتعة وتحياها أسر غير عملية وبلا أي ميزة تنفرد بها.

لكن الأمر لم يقتصر على تعويض شظف ماضيهم بإضفاء صفات أسطورية على كل من أميركا والأميركيين على الشاشة، بل سارعوا، كما يؤكد المؤلف، إلى إعادة تشكيل حياتهم، فأصبحت نوعاً من الفن، وهو ما كان ذا أثر فعال على كل مناحي الحياة في هوليوود، حيث عاشوا في بيوت واسعة أقرب للقصور، محاولين استنساخ قصور الصفوة في الساحل الشرقي من أميركا، وإن كان البعض قد اعتبره استنساخا فجاً.

_غلاف الكتاب في طبعته الانجليزية.jpg

الكتاب بالإنجليزية (دار أنكور)

وأسسوا نادياً اجتماعياً فخماً يدعى “هيل كريست”، يشبه تلك الأندية التي أسسها غير اليهود، والتي أغلقت في وجوههم، وشاركوا في حياة ثقافية تتمركز حول هوليوود، وتضاهي الحياة الثقافية لأرستقراطية الساحل الشرقي.

أما بالنسبة لحياتهم الاجتماعية فقد وضعوا لها نظاماً طبقياً هرمياً كانوا “النبلاء” فيه. ويمكن للمرء – يقول غابلر – أن يدرك بسهولة أنهم استوحوه من المجتمع الإقطاعي الطبقي في عصر لويس الرابع عشر. وبالنسبة لحياتهم السياسية، فقد هجروا الديمقراطيين الذين يصوت لهم معظم أهل دينهم، وأقسموا على الولاء للجمهوريين كما يفعل الأرستقراطيون. وتعمق شعورهم؛ بما أن مجتمعهم الديني بات مغلقاً بشكل رهيب، إذ يمكن رؤية اليهود فيه من دون سماع صوتهم، أو كما قال أحد حاخاماتهم البارزين: “بالله عليكم، إنني أحيا في أميركا، يجب عليّ أن أكون جزءاً من الوسط الذي أحيا فيه. لا أريد لنفسي أي جيتو هنا”.

خلاصة القول إنه ينطبق على يهود هوليوود ما قبل دزرائيلي (وهو يهودي عانى التهميش والتعالي من مجتمع يدعم الطبقية) بأنه تلمس الاستعاضة النفسية من خلال “المحاولة الدائمة للعيش في جو خيالي يخلب عقول الآخرين”.

الاستحواذ على الخيال الأميركي

ولعل المدهش في الأمر هو مدى النجاح الذي حققوه في نشر هذا الخيال على امتداد العالم، بخلق أميركا موازية يجعلون فيه القيم الأميركية المندثرة قيماً مثالية في عالمهم الموازي. اخترع يهود هوليوود إذاً مجموعة من الصور والأفكار بلغت من القوة والنفوذ ما جعلهم يستحوذون على الخيال الأميركي، ولم يعد ممكناً لإنسان في أي بلد آخر أن يفكر في أميركا من دون أن ترد على ذهنه الأفلام الأميركية.

ونتيجة لذلك تضاعف التناقض، فالأفلام كانت أميركية الجوهر، بينما لم يكن الرجال الذين صنعوها كذلك. وفي نهاية المطاف صارت الأفلام التي صنعها اليهود هي التي تضع – إلى حد بعيد – القيم الأميركية؛ بل إنهم بخلقهم أميركا المثالية الخاصة بهم على الشاشة، أعادوا اختراع البلد في صورة من محض خيالهم.

كيف فعلوا ذلك؟ ولماذا؟ وماذا كسبوا؟ وماذا خسروا من فعلتهم تلك؟ تلك هي قصة هذا الكتاب، الذي يختتمه مؤلفه بالتأكيد أن تلك الإمبراطورية لا تزال قائمة، ولكن مؤسسيها فقدوا السيطرة عليها، بل صاروا عبئاً عليها، بعد أن جاء رجال جدد، كثير منهم يهود. جاء محامون ورجال أعمال ووكلاء فنانين تربطهم علاقات وثيقة مع مصدر السلطة الجديد المتمثل في نجوم هوليوود.

يقول غابلر: “نجت الاستديوهات، بعد أن صارت مجرد أماكن يصنع فيها الآخرون أفلامهم، ولم تعد إقطاعيات تحقق رؤى حكامها. انهارت “مترو غولدن ماير”، فاشتراها كغرل كيركوريان، وهو أحد أقطاب صناعة الفنادق، وباع أصولها وملابس الممثلين بالمزاد، وفي النهاية قام ببيع أراضي الاستوديو. وابتلعت شركة الفنون السبعة شركة إخوان وارنر في البداية، ثم آلت إلى شركة وارنر للاتصالات. واستحوذت شركة الخليج والغرب – وهي إمبراطورية متعددة الجنسيات – على شركة بارامونت”.

أما شركة “يونيفرسال” فقد اشترتها شركة “أم سي إي”؛ أكبر وأقوى وكالة للفنانين، وكان ذلك متوافقاً مع نجاح رئيسها ليو واسرمان؛ وكيل الفنانين المتألق في فرض تقليد جديد بحصول النجوم الذين تمثلهم وكالته على نسبة من أرباح الأفلام، وهو ما أسهم في إعطاء النجوم زخماً لجهة إنهاء النظام الإقطاعي القديم للاستوديوهات. وقد استمرت “كولومبيا هاري كوهن” صامدة لأطول فترة أمام الشركات الغازية، لكنها استسلمت في النهاية، وهي الأخرى استحوذت عليها شركة “كوكاكولا”.

وعلى الرغم من أن النسيان طوى أسماء الأقطاب المؤسسين، فإنه ما من شك أن ما تركه يهود هوليوود خلفهم – يقول غابلر – كان شيئاً قوياً وأسطورياً. ويضيف المؤلف: “ما تبقى منهم هو الفتنة، ومشهد طبيعي لإبداع العقل البشري، ومجموعة رائعة من القيم والسلوكيات والصور، وتاريخ وأساطير تشكل جزءاً من ثقافتنا ووعينا. ومما تبقى أيضاً من أثرهم صورة أميركا التي في مخيلتنا، وهي في الأصل مخيلتهم عنا. فمن نتاج تلهفهم وأحلامهم أعطونا أميركا كما نراها الآن، ومن نتاج تلهفهم وأحلامهم أبضاً فقدوا ذواتهم”.