لا اعرف ان كنا امام فرصة مهمة باحتمال حصول انتخابات تشريعية ورئاسية طال انتظارها، ام نحن امام اقتسام لانقسام بين طرفي النظام الحاكم الفلسطيني لتكريس نفوذهما واستحواذهما على طرفي الوطن المنقسم والمتشرذم والمنفصل المحاط من جميع الاتجاهات بما يؤكد ويذكر ويكرس حقيقة الاحتلال.
من جهة، يبدو الامر واضحا عند النظر الى الاتفاقية بين حماس وفتح لاقتسام الانتخابات وتوزيع الحصص فيما بينهما، وكأن الكيان الذي يتم الحديث عنه مجرد ارقام تتبلور بنهاية الامر لمحاصصة بين الفصيلين. نحن لا نعدو كوننا أرقاما لأهدافهم بامتصاص ما تبقى من كياننا ليشكلوا فيما بينهم افرادا متمكنين مستحوذين طغاة ظالمين. فإذا ما حصلت انتخابات على حسب مخططهم فنحن في مصيبة لا نعرف متى ستنتهي والى اين. فهذا يعني انهم سيستمدون شرعيتهم الغائبة من خلال صناديق الاقتراع ليستمروا في اختلاسهم لحياتنا.
ولكن، من جهة أخرى، إذا ما حصل وخسروا، إذا ما جرى بالفعل انتخابات نزيهة، وهو امر من المستحيل حدوثه في ظل مراسيم رئاسية لرئيس يبدو انه سيعيد ترشيح نفسه يتم رسمها وفق احتياجاته وقراراته ومزاجه ومصالحه وفصيله، او بالأحرى وافراد بعينهم مقربين منه. فتبدو الانتخابات وكأنها مصيدة تم حشرنا فيها. فمن يسمع حديث رئيس الوزراء بلقاء تلفزيوني بالأمس، يشعر وكأن الانتخابات والمجلس التشريعي هي الوصفة السحرية لكل مشكلة. قوانين لا تعجبنا اليوم، نغيرها عندما ننتخب المجلس التشريعي. لدينا أي ملاحظات عن أي اعوجاج او لا قدر الله انتهاك او إذا ما كان هناك حالة استثنائية بها فساد، فالمجلس التشريعي المنتظر سيحلها كلها ويحل مشاكلنا ويحقق لنا الديمقراطية المبتغاة!
من يسمع رئيس الوزراء ووثوقه بالانتخابات القادمة يقلق، فالطبيعي والبديهي أن يخاف، لأنه لن تستمر حكومة عناقيده الواعدة التي لم يقطف أي من ثمارها بعد، فتراه يتكلم عن الانتخابات المحتملة المرتقبة القادمة وكأنها انجاز حكومته. يتكلم عن غد مرتقب محتمل مشرق لمجلس تشريعي قادم بثقة الواثق، اما بالنجاح المطلق والمؤكد او عدم الحدوث، وكأن لسان سره يقول ” ابقوا شوفوني إذا صار اشي” ولسانه العلني يفرش لنا الورود والآمال والوعود وكأننا سنتحرر… اسفة… التحرر ليس من ضمن تفكيرنا أصلا. فجل ما نسعى له حكومة وشعبا هو إدارة بعض امورنا بينما يديرنا ويدور بنا الاحتلال. علّ وعسى بعد هذه الانتخابات المرتقبة تعيد السلطة الشرعية لنفسها امام العالم الذي تتوسله من اجل دفع فواتيرها.
ما توحي به جلسة رئيس الوزراء الواثقة انه متأكد من النتائج، فهو جالس في مكانه لا يتراوح عنه، مما يوحي بمعنى ان النتائج محسومة بجميع الاحوال، إذا ما جرى انتخابات وتم اقتسامها، وإذا لم يجر انتخابات وهو الأرجح. وكذلك ان جرى انتخابات وخسروا فيها، فهؤلاء لا يبدو انهم سيستسلمون لنتائج. ولن تكون محصلة ردة فعلهم كما فعل ترامب بالنهاية. هؤلاء سيُدخلون البلاد في حرب أهلية استنزافية حتى التأكد من بقاء كل واحد فيهم على كرسيه الى الابد. فما نشهده من عنف واقتتال هنا وهناك باستخدام أسلحة يبدأ ثمن القطعة فيها بعشرات الالاف الشواكل، يؤكد ان العدة التي يتم اعدادها ليست من اجل مواجهة الاحتلال ولا من اجل ان يستخدمها شاب ارعن يقتل فيها من يعترض طريقه. قد تكون نهاية مشهد خسارتهم بالانتخابات دموية أكثر بكثير مما نعرفه وشهدناه من الدموية. وما نشهده منذ اعلان حالة الطوارئ من استبداد علني وسري، وتغيير قوانين وكبت حريات وقمع واعتقالات وحرق ممتلكات ليس الا تمهيدا لما هو أسوأ قادم.
نعم يبدو المشهد مرعبا، فبانتخابات وبلا انتخابات وضعنا في مهب ريح على ارض مشتعلة. فهل من مخرج؟
لا بد من مخرج طالما نحن ننبض بالحياة. فكم من الممكن ان نتأقلم مع هذا الواقع الذي يستمر بالدوس علينا من الجهتين، يدوسنا الاحتلال من جهة وتدوسنا السلطة من الجهة الأخرى. بالنهاية نحن الشعب المصدر الحقيقي والوحيد لقوتهم ولشرعيتهم ولوجودهم. ونحن من اعطيناهم الحق في التواجد وإقامة السلطة ورحبنا بعودتهم وانتظرنا بأمل دولة فلسطينية تمثل امالنا كشعب.
اليوم، علينا ان نقف بكل جدية امام أنفسنا ونسأل، كيف نعرّف أنفسنا كفلسطينيين؟ هل نحن هذا الشعب المنقسم المتشرذم بين الضفة وغزة والقدس ويعيش من اجل ان يكون له سلطة بها رئيس ورئيس وزراء ونواب مجلس تشريعي وتنظيمات امنية وعلم؟ ام نحن الشعب الذي تشتت وتشرذم وتهجر وصمد وواجه من اجل ان يبقي هويته ويعيش من اجل الحرية؟
للإجابة على أي من السؤالين علينا ان نعترف كذلك ان المشكلة التي تركناها تتفاقم هي مشكلة نظام سياسي فشل بتمثيل طموحنا كشعب وحولنا الى افراد تلهث وراء بقائها.
نحن بحاجة الى تغيير حقيقي وجذري بالنظام السياسي الفلسطيني. نحن بحاجة لأن ننهض من سباتنا ونستنهض طاقاتنا ونوحد صفوفنا كشعب فلسطيني في كل مكان ونعيد تشكيل هويتنا الفلسطينية. نحن بحاجة لأن نعيد تشكيل هويتنا التي تشتت ولم نعد نستطيع ان نعرفها. نحن بحاجة الى لملمة شتاتنا وننتج ما يجمعنا لا ما يفرقنا. قد يتوجب علينا الاعتراف ان منظمة التحرير ماتت، وحان وقت دفنها، اكراما لما قدمته في حياتها. فما يحدث من استغلالها او محاولة تحريكها كمن يعبث بأعضاء ميت. الا نستطيع استنهاض جسم جديد يظلل علينا جميعا كفلسطينيين وننظم أنفسنا من خلاله؟
ما جرى منذ قيام السلطة وتؤكده عبثية محاولة الانتخابات هو تفتيت للهوية الفلسطينية الجامعة، فلقد صار من يمثل فلسطين هو من يستطيع ان يكون اسمه في السجل الانتخابي. هل فلسطين هي بمن يحق له الاقتراع؟ – طبعا- بلا الحاجة الى التطرق الى إشكالية القوائم والتسجيل بها- نحن بحاجة لما يجمعنا كفلسطينيين بهوية تحدد ملامحنا كشعب واحد تشكل الضفة وغزة والقدس فيه جزء من الكل الفلسطيني. اين وكيف يمثل فلسطينيي الداخل أنفسهم ويعرفونها؟ اين فلسطينيي المخيمات خارج حدود الضفة وغزة؟ أين فلسطينيي المهجر والشتات من تمثيل أنفسهم؟
انغمسنا وغرقنا بمشاكلنا اليومية المتفاقمة ونسينا هويتنا الجامعة. لم نعد ذلك الشعب الذي ضرب المثل بصموده وتحديه لجبروت الاحتلال على مدار العقود. صرنا شعب غزة وشعب الضفة واهل القدس وجماعة المخيمات وعرب الداخل وفلسطينيي المهجر. ولا يزال العالم والاحتلال ينظر لنا كشعب واحد فاسد بفساد قيادته!
صرنا أبناء عشيرة ودين وحزب ومدينة وقرية، تتفرد في مصالحها وتعلو بتكتلها امام من يقترب منها وتسمو مع نفسها ظالمة او مظلومة. ونسينا ان الانسان يعلو ويسمو بأخلاقه وفضيلته.
ما نحتاج اليه هو جسم جامع لنا بكل اطيافنا واشكالنا وانتماءاتنا وعقائدنا وافكارنا.
نحن اليوم نقف فارغي الايدي من كل شيء الا ما تبقى من هويتنا الفلسطينية الجامعة. تلك الهوية التي تصارع في ظل تفاقم الاحداث حولنا وانهيار واضح للنظام السياسي الحالي من اجل أنفاسها الأخيرة.
هذه الهوية التي تبقي بداخلنا إصرارا على الوجود. هذه الهوية التي تجعلنا هذا الشعب الذي تحمل العيش تحت احتلال ولا يزال يجاهد من اجل تحرره.
نحن بحاجة لأن ننتج حركة نعيد من خلالها تشكيل نظام سياسي جامع، يمثل الفلسطينيين في كل مكان ويطمح الى تحررهم.
التحرير الذي نحتاجه ونصبو اليه اليوم يجب ان يكون خاليا من الشعارات الفارغة التي تسْتَمْهن حاجة الانسان بدلا من عكس احتياجاته وطموحه وتوقعاته. نحتاج اليوم أكثر من أي شيء الى العمل على بناء الانسان الفلسطيني بهويته التي تحترم إنسانيته أولا واخرا.
نحتاج ان نتحرر من قيود التبعية والعبودية والقدسية لشخص نصّبناه مُخلِّصاً او محرّراً او زعيماً، والعمل بإخلاص نحو إعادة بناء منظومة اجتماعية ترتقي بها الاخلاق وتُحترم فيها المعتقدات وتسمو لأجلها الحريات.
علينا ان نشكل حركة جديدة يساهم الأفراد فيها من اجل بناء شعب تمنح فيه الفرص للجميع، وتقدم فيه الكفاءات، وتنمو فيه القيم الأخلاقية، ويُعزّز فيه التّعاضد الاجتماعي، وتُشكّل وحْدته قوّة.
نحن امام امتحان وجودي، يوقفنا أمام قدرتنا على إحداث تغيير وإصلاح النظام السياسي الفلسطينيّ نحو بناء هوية فلسطينية وحدويّة شموليّة جامعة بقاعدة بناء دعائمها ترتكز على العدالة والنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص وتبني الأفكار البنّاءة والابداعية التي تنظر نحو مستقبل يكون فيه الإنسان الفلسطينيّ حرّاً.
عندما يتحرك الإنسان الفلسطيني ويتحرر من المراوحة نحو حراكات تقضي مصالح آنية…. نستطيع ان نحرر الوطن.
وإذا ما كان قد تشكل من حركات على مدار ستة عقود لم يأتينا بحرية ولا تحرر، فمن الواجب ان نبدأ الآن وفورا لتشكيل حركة تسعى لتحرير الانسان ليستطيع ان يحرر وطنه… ولا اعرف كم عقد نحتاج لنخرج التعقيدات التي توحلنا بها حتى يومنا هذا.