أهم المنزلقات بعد “كورونا” إنتقال “الإحتجاج” ضد الأشخاص إلى “المؤسسات” والضرورة تتطلب مراجعة “الأخطاء والفرص” ومواجهة الفساد فعلا وكبت المشاعر المعادية “للدولة”
الدكتور عامر سبايله:
عشر سنوات مرت على اندلاع الثورات العربية دون تحقيق أي تغيير حقيقي، لكن يمكن القول ان السنوات الماضية أضعفت الأنظمة السياسية وزادت حالة الغضب الشعبي.
وبعيداً عن الواقع العربي، فرضت أزمة كورونا واقعاً جديداً على المستوى الدولي، حيث باتت كثير من الدول تواجه تحديات متعددة الأبعاد، لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية والمعيشية بل على تحديات وجودية يمكن توصيفها بمصطلح “أزمة الحكم” التي تضطر فيها الأنظمة الى إعادة تشكيل مفهوم ودور الدولة.
وإذ تتفق معالم الازمة بصورتها العامة لكن تختلف التفاصيل ووصفات الحلول بين الدول المختلفة.
بالنسبة لدولة مثل الأردن تحتفل هذا العام بالذكرى المئوية لتأسيس نظامها السياسي، تُقدم هذه المناسبة فرصة مهمة لتقييم الإنجازات والأخطاء والتحديات والمخاطر والفرص.
لكن هذا يتطلب تطبيق أسلوب تفكير غير تقليدي قادر على تقديم وصفة للتغلب على هذه التحديات قبل أن تتحول إلى مخاطر حقيقية في المستقبل القريب.
في قراءة للسنوات العشرة الأخيرة للحراك السياسي في الأردن هناك اجماع أن الصعوبات الاقتصادية وحالة الإحباط السياسي الذي دفع الأردنيين ، وخاصة الشباب ، إلى الشارع خلال العقد الماضي جاء نتيجة تراكم أخطاء السياسة وسوء الإدارة التي خلقت أجواء من الإحباط والتوتر والغضب الشعبي.
في الوقت نفسه من المهم أن ندرك أن اتساع الفجوة بين الناس والحكومات أصبح ظاهرة لا تقتصر على دولة بعينها، فالثقة بين الدولة والناس في الأردن تتآكل منذ فترة من الزمن ، حيث عزفت مختلف الحكومات عن تطبيق مبدأ الشفافية في السياسة العامة وتعاملت بأسلوب اقصائي لا احتوائي.
لكن اين تكمن الخطورة اليوم؟
في النموذج الأردني بالرغم من الانتقادات للحكومات الا ان أحد أهم عوامل الاستقرار في الفترة الماضية تجسد في غياب أي مشاعر معادية للدولة ومؤسساتها لدى المواطن الاردني. فالأخطاء كان تختزل في افراد او شخوص ويتم تجنيب المؤسسات لهذا في الذهنية المجتمعية المؤسسات مصونة مما يفسر عدم تشكل أي حالة غضب شعبي تجاه هذه المؤسسات.
لكن في السنوات الأخيرة بات واضحاً ان عدم التعاطي بفاعلية مع التحولات في المشهد السياسي ساهم في تطور فكرة المسائلة الشعبية وأدى الى توسع دائرة النقد وتوجيه الاتهامات مما يُنذر بخطر خسارة ميزة غياب المشاعر المعادية للمؤسسات. “Anti-state sentiment”
لهذا قد يكون من المهم أن يتبنى الأردن تطبيق نهج تصالحي عندما يتعلق الأمر بالسياسات المحلية، وقد تكون الخطوة الأهم في هذه المنهج الاعتراف بالمشاكل التي دفعت الأردنيين إلى الشارع بعيداً عن المقياس العددي لحجم المتظاهرين. فالوئام الوطني والاندماج السياسي والمصالحة الداخلية هي الركائز الأساسية للاستقرار في الأردن والتي يجب ان تُشكل الهدف الرئيسي من أي مراجعة حقيقية للمراحل السابقة.
واذا اتفقنا ان أزمة كورونا أعادت مبدأ سيادة الدولة واضطلاعها بالتفاصيل التنظيمية للمجتمع، فان استعادة الدور القيادي للدولة يتطلب بناء سردية وطنية مبنية على عدة أساسات، أهمها إعادة تعريف مفهوم الولاء والمعارضة السياسية والأدوار المجتمعية لجميع القوى الفاعلة.
ان حجم التحولات المجتمعية وطرق ونمط التفكير وضع فكرة الحاكم والمحكوم في أزمة تستدعي خلق حركة تجديدية ترتكز على تصحيح الاخطاء واحداث ثورة بيضاء في داخل الأجهزة البيروقراطية.
هذه هي أهم معالم المشروع الوطني الذي لم يعد الحديث عنه يُصنف في اطار الترف السياسي ، بل ضرورة ملحة لاحتواء وإدارة الانقسامات المجتمعية وانهاء حالات وسياسات الاستعداء المجتمعي.
الوحدة الوطنية تمكن جميع القوى المجتمعية من تحمل المسؤوليات والقيام بدورها في مواجهة الأزمات المعقدة ذات الابعاد المتعددة والتعامل بحس عال مع النتائج الصعبة والتداعيات التي تمس حياة المواطنين. وهذا ما يصطلح على تسميته ب “التضامن الوطني” والذي لا يمكن ان يتحقق دون شعور الناس بالتشاركية، أي المشاركة والمسؤولية في إدارة حياتهم وتحديد معالم مستقبلهم.
التفكير في تقييم الواقع يستحضر ايضاً مسألة قدرة الدولة على مخاطبة مواطنيها والتأثير على الداخل، فبالرغم من تعدد الوسائل والأدوات الإعلامية عانت الدولة من اتساع فجوة التواصل وانعدام الثقة في الخطاب الحكومي وهو ما يستدعي اليوم تقييماً حقيقياً وتبني لنهج تواصلي أكثر تطوراً لسد الفجوة التاريخية بين الناس والمسؤولين.
أما المعضلة الأهم التي لا يمكن التغاضي عنها هي مسألة الفساد التي باتت تصيغ السيكولوجية الشعبية وتضع النظام برمته موضع الاتهام.
هنا لا بد أن نتذكر أن كثير من الحركات الشعبية صاغت أديباتها على مطالب مكافحة الفساد، وبالتالي فإن الإجراءات ضد الفساد ستكون حاسمة للغاية لإعطاء الناس انطباعًا بأن الأمور تتغير بشكل جدي.
في هذا الاطار اعتبر نيكولو مكيافيلي ، الفيلسوف السياسي لعصر النهضة ، أن هذا النوع من المحاسبات أساسي لعمليات التجديد ومطلوب بشكل دوري على الأقل كل عشرة سنوات، وأن أي تأخير في مكافحة الفساد الواضح من شأنه أن يخلق مخاطر جسيمة للدولة.
يعتقد مكيافيلي أن :”الرجال يبدأون في تغيير عاداتهم وانتهاك القوانين ، وإذا لم يتم تحديث ذاكرتهم حول العقوبة ، ولم يتجدد الخوف في نفوسهم ، فسرعان ما سينتشر العديد من الفاسدين بحيث لا يمكن معاقبتهم دون خطر”. أي باختصار ان غياب العقوبة في ذهنية المسؤول تؤسس لمرحلة معقدة من الفساد يصعب التعامل معها.
الأردن، مثل بقية دول العالم ، يواجه تغيرات كبيرة، يشمل جزء من هذه التغييرات الموقف الشعبي من النظام والمسؤولين حيث نشهد ثقافة متزايدة من الاحتجاجات سواء على صعيد الاحاديث الخاصة او دخول ثقافة الإضراب التي شقت طريقها بقوة في مسألة نقابة المعلمين حيث تحولت من وقفة احتجاجية الى معضلة سياسية.
ظواهر التغيير المجتمعي هذه لا تواجه الا بثقافة الانفتاح والا قادت الى انقسامات كبيرة بحيث تتقوقع فئة صغيرة على نفسها بصفتها ممثلة للدولة والنظام في مواجهة فئة شعبية كبيرة تشعر بجميع مشاعر التهميش والاقصاء.
لهذا في مئوية الدولة لابد من التذكير أن قوة الأردن في توسيع مظلة النظام والحفاظ على الانسجام الداخلي وهذا لا يمكن ان يتحقق عبر تسويق الشعارات بل بالقيام بخطوات حقيقية على الارض.
خاص بـ”رأي اليوم”