بعقلية ريفية تقليدية وأيديولوجية شعبوية وبشكل غير واع أسهم النظام بتفكيك الموروث العمراني
أمين الزاوي كاتب ومفكر
بغض النظر عن اسم المدينة هذه أو تلك، “آلجي” (مدينة الجزائر العاصمة)، وهران، قسنطينة، سعيدة، عنابة، بجاية، تيزي وزو، سطيف، تلمسان، بسكرة، باتنة، تيارت… مدن متروبول أو متوسطة أو صغيرة أو هامشية، لقد اختفى ظل المدينة من المدينة، المحو.
لقد فقدت المدينة الجزائرية، شأنها شأن المدن العربية والمغاربية القديمة منها والجديدة، قيم المدينة، فقدت ذاكرتها، أرصفتها، بلكوناتها، لغتها وساكنتها، لقد فقدت المدن الجزائرية عقلها الباطني والظاهري، الفوضى، الإهمال والترقيع.
فقدت المدينة هويتها، حتى أصبحت تشبه لا شيء أو تشبه “دشرة” بكثافة سكانية غريبة ومتصاعدة، مع كامل التقدير للـ “دشرة”، الـ “دشرة” الأصيلة، ولأهلها المعتصمين بقيمهم.
من يختفي وراء تعرض طوبوغرافيا المدينة للانتهاك وثقافة العنف؟
لا بلد من بلدان العالم الثالث، وبالأخص في العالم العربي وبلدان شمال أفريقيا، يملك موروثاً من المدن يعادل ما ورثته الجزائر المستقلة من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني.
لقد ورثت الجزائر عشية الاستقلال عام 1962 من الاستعمار الفرنسي أكثر من 40 مدينة من أبهى المدن، وعشرات المئات من القرى الجميلة، بعد أن غادرها الفرنسيون والأوروبيون، مدن على الشاطئ وفي الهضاب العليا وفي الصحراء، رأسمال عمراني حضاري لا يقدّر بثمن، جواهر عمرانية بهندسة خارقة في الجمال، مدن لم تكن تختلف عن باريس ومرسيليا وبوردو ونيس وغيرها من حيث الهندسة العمرانية البديعة والمختلفة المدارس، لقد كان هذا الموروث العمراني كافياً لأن يجعل من الجزائر المستقلة بلداً معاصراً ومتطوراً ومنافساً لكثير من البلدان الأوروبية، القاعدة المادية حاضرة بالإقلاع، لم يبقَ سوى الانطلاق المدروس.
كل هذا الموروث العمراني الجميل من المدن والقرى هو غنيمة حرب التحرير، هو فخر نتائج الثورة العظيمة التي انطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1954، ما في ذلك شك.
لكن بعقلية “قروسطية”، تقاسم الخارجون من الثورة هذه الغنيمة على الطريقة التي كانت تقسّم بها غنائم حرب الفتوحات الإسلامية الأولى!
لقد وضع الجزائريون اليد على هذه الغنيمة من المدن والقرى الجميلة التي أقامها الاستعمار الفرنسي الاستيطاني على مدى 132 سنة من وجوده على أرض الجزائر، لكن بثقافة مختلفة عن التي عليها ولها تأسس هذا العمران المدهش، وضع الجزائريون يدهم على هذه الغنيمة من المدن بثقافة تقليدية غير متماهية مع فلسفتها وجمالياتها.
إن تسيير المدينة الكبيرة الجميلة وصيانتها تتطلب فلسفة عمرانية كبيرة ومناسبة ومتناسبة، تتطلب دولة معاصرة بمؤسسات معاصرة، لكن الجزائر، ومنذ الأيام الأولى للاستقلال، انتقلت من نظام استعماري عنصري فرنسي إلى نظام ريفي تقليدي، ومنذ الاستقلال إلى اليوم، تعيش الجزائر تحت نظام سياسي وليس تحت مؤسسات دولة، وهناك فرق كبير بين النظام السياسي والدولة، إن الدولة ليست النظام السياسي أبداً، والنظام السياسي لا يمكنه أن يكون بديلاً عن الدولة.
منذ الأيام الأولى للاستقلال، مدفوعين بشعبوية سياسية أسس لها خطاب النظام السياسي الجديد، تحرك الجزائريون بعقلية وسيكولوجية الانتقام من الموروث الاستعماري، الانتقام من كل ما يرمز إلى المستعمر بتخريبه والنكاية به: المدن والقرى الجميلة وتقاليد الإدارة واللغة.
بهذه السيكولوجية الجماعية التي تعدّ أخطر مرض سياسي قد يصيب المجتمع، وبشكل متحمس وغير واعٍ، وجد الجزائريون أنفسهم يخربون الخيرات والنفائس العمرانية التي انتزعوها بالدم من الاستعمار، وضحّى لأجلها مليون ونصف المليون من الشهداء.
حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، كانت المدينة الجزائرية نموذج العمران والتنظيم والجمال مقارنة بمدن البلدان العربية وبلدان شمال أفريقيا، مدناً نظيفة، منظمة، بتسيير عقلاني. أذكر وأنا لا أزال طفلاً صغيراً، كنا نسافر من مدينة تلمسان إلى وهران، في الحافلة التي كانت تتوقف بنا في قرى مدهشة الجمال: الحناية، الرمشي، تموشنت، حاسي الغلة، ريو صالادو (المالح)، بوتليليس، العامرية، مسرغين… قرى بنيت بجمال خارق لا تشبهها سوى تلك التي كنا نشاهدها في صور كتب القراءة المدرسية!
10 سنوات في ما بعد، الأشجار اقتلعت، الأرصفة حفّرت، البلكونات تهاوت، معصرات الخمور الشهيرة هجرت، الأسواق المغطاة تساقطت، المقاهي الجميلة أهملت! عادات ثقافية استوطنت القرى الجميلة، فنكلت بها.
وفي المدن الكبيرة أيضاً، عقلية أخرى جديدة استقرت في هذا الفضاء العمراني، صدام عمراني تولّد من جراء هذا الزحف على المدن من فقراء كانوا ضحية الاستعمار الاستيطاني العنصري.
لإلهاء الشعب والتحكم فيه، اعتمد النظام الجزائري الجديد، ومنذ الأيام الأولى للاستقلال على الأيديولوجيا الشعبوية الاشتراكية والوطنية المزكومة التي توزع الأحلام والأوهام، لم تكن تشغله قضية الحفاظ على الرأسمال العمراني الكبير، فمن أجل أن يبقى على رأس السلطة، كان النظام مستعداً للسماح بتخريب كل ما تمت استعادته بالدم من عمران ومؤسسات، المهم البقاء في السلطة ولو فوق الخراب.
بعقلية ريفية تقليدية وأيديولوجية شعبوية، وبشكل غير واعٍ، أسهم النظام الجزائري في تفكيك الموروث العمراني من مدن وقرى جميلة، بالتعامل معها وكأنها غنيمة حرب يجب تقاسمها على طريقة غنائم الفتوحات الإسلامية الأولى. وبشكل غير واعٍ أيضاً، مدفوعاً بالخطابات الثوروية وحماس الاشتراكية الشعبوية، استطاع النظام الجزائري أن يقنع الجزائريين بأن ما قاموا به من أجل الاستقلال هو ليس حرباً تحريرية فقط استعادوا من خلالها بلدهم، إنما ما قاموا به خلال حرب دامت سبع سنوات ونصف السنة، هي فتوحات، وأنهم لم يحرروا بلدهم فقط بل فتحوها، إذاً، من حقهم اقتسام الغنائم: الفيلات، المحلات التجارية، العمارات، الأرصفة، الضيْعات، الأراضي، البحر، الشواطئ والحدائق العمومية.
من دون شك، كان هناك مجتمع مديني حضري جزائري عريق من الأهالي الأصليين أيام الحقبة الاستعمارية في بعض الأحياء العتيقة، الذي حاول الحفاظ على تقاليده الثقافية والاجتماعية والدينية والدفاع عنها، من خلال تطعيمها، بين الفينة والأخرى، بالقيم الثقافية الإنسانية الأوروبية نظراً إلى التعايش المفروض. لكن حتى هذا المجتمع المديني الحضري الأهلي، سيجد نفسه هو الآخر مهدداً جراء ما تعرضت إليه المدينة من فوضى واختراقات جديدة بعد أن غادرها الفرنسيون والأوروبيون وسقطت بيد الفوضى وسوء التسيير العمراني وغياب الدولة الوطنية الجديدة.
جراء هذه الفوضى، فقدت المدينة التي تسلمها الجزائريون من الاستعمار معناها وهويتها العمرانية، وسادت ثقافة انتهاك العمران، وسكنت الـ “دشرة” المدينة، عقلياً وثقافياً وسلوكاً، والشيء ذاته حدث للقرى التي هجرها الأوروبيون إذ لم تكن هي الأخرى بمنأى عن هذا الانقلاب العمراني الجديد.
فالمدينة لم تعُد فضاء للمدينيين، مع التنبيه من أن “المدينة” ليست قيمة مضافة في حد ذاتها، ليست أفضل من الريف أو القرية، فالمدينة ليست مرتبة للتميز الاجتماعي، لكنها تعريف حضاري بعينه له خصوصيته التي تجعل منه فضاء خاصاً. كما أن الريف أو القرية ليست مرتبة دنيا في المجتمع بل هي تعريف لفضاء له خصوصيته، إذا ما انتهكت، فقدت القرية خصائصها الجميلة.
أما في الجزائر، فقد تعرّض المجتمع العمراني الموروث من الاستعمار برمته لانتهاكات مدينة وريفاً، إذ تم ترييف المدن ولم يتم تمدين الريف على الرغم من المظاهر الكذابة التي قد توحي بذلك.
إن سيكولوجية الجماعة أو القطيع المؤسسة على فكرة الانتقام من كل ما يرمز إلى الاستعمار والفقر المعمم والحلم بالثروة التي رافقت الاستقلال وكرّسها الخطاب الشعبوي للنظام، كل هذا أسهم في فوضى العمران المديني والريفي، وفي الانقلاب الذي حصل على سُلَّم القيم الاجتماعية والثقافية على السواء المدينية الحضرية والريفية، مع التنبيه إلى أن “الفلاح” ليس قيمة عيب أو إهانة، و”الموظف” ليس قيمة تميّز.
سنة بعد أخرى، فُرّغت المدينة الجزائرية من حضريتها، وأصبح سكانها نوعاً من الهجين الثقافي والاجتماعي، وزاد الطين بلة ما حدث في العشرية السوداء (1990-2000) من حرب أهلية خلّفت أكثر من 200 ألف قتيل، فزادت من التهجير والترحيل والحذر والخلط العمراني.
لست أدري لماذا، كلما فكرت في سكان المدينة الجزائرية، أتخيلهم وكأنهم مقيمون في غرف بفندق وليسوا في مساكنهم بهذه المدينة أو تلك! أتصورهم دائماً على أهبة للرحيل، الرحيل في اليوم الموالي للعودة إلى قراهم الأصلية، لكن ومع كل صباح، مع كل يوم جديد يتم إرجاء العودة إلى يوم آخر، وفي هذا الانتظار تتهاوى المدينة تحت أنظارهم أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم!