فلسطين في رحلة المؤرخ والجغرافي الراحل مصطفى الدباغ

قليلة هي المواد الإعلامية التي سلطت الضوء على السيرة البحثية للراحل مصطفى مراد الدباغ، حيث استحضر في بحوثه الغزيرة فلسطين الجمال والظلال بكافة تفاصيلها الدالة على إرث شعبها الحضاري، فضلاً عن العلاقات الاجتماعية والرموز الجغرافية والتاريخية المتأصلة والعريقة؛ الشامخة كما جبالها ومقدساتها التي حاول ويحاول المحتل الصهيوني طمسها عبر تهويد الزمان والمكان، بغرض فرض الرواية الصهيونية المزيفة عن فلسطين وشعبها.

حول سيرته الذاتية

مصطفى مراد الدباغ مدرس وباحث وكاتب  فلسطيني، من أهم نتاجاته البحثية موسوعة بلادنا فلسطين، التي تعتبر من أهم المَراجع التي وثقت معلوماتٍ حول فلسطين وشعبها.

وُلدَ في مدينة يافا أرض البرتقال الحزين في عام 1897، ووالده مراد الدباغ والدته آمنة هيكل، وزوجته وداد محمصاني، ولهُ ولدان عمر وصلاح الدين. تلقى علومه الأولية في المدرسة الأميرية فيها، ثُمَ أكمل دراسته الثانوية في المكتب السلطاني في بيروت. 

في عام 1915 استدعيَ للخدمة كضابطٍ احتياط في الجيش العثماني فتلقى تدريبًا عسكريًا في مدينة بعلبك وأُرسل إلى معسكرات الجيش في إسطنبول ثم أُرسل مع الحملة المتجهة إلى الحجاز بقيادة فخري باشا، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى انضم إلى صفوف الملتحقين بالشريف حسين، فعمل في الحجاز مدة تزيد عن سنة.

بعد قيام بريطانيا باحتلال فلسطين عاد إلى يافا ليعمل في مجال التربية والتعليم، حيثُ عمل مدرسَا ثم مديرًا لمدرسة المعارف الرسمية في الخليل، ثُمَ مُدرسًا في دار المعلمين القدس عام 1925، وفيما بعد عمل مساعدًا لمفتش المعارف في نابلس وغزة، ثُم مفتشًا للمعارف في اللواء الجنوبي وفي لواء نابلس. 

شغلَ عدة مناصب منها مساعدًا لوكيل وزارة المعارف في عمّان، ثم وكيلًا لها في الفترة ما بين 1954 حتى 1959، كما عمل أيضًا مديرًا للمعارف في قطر من سنة 1959 إلى سنة 1961. 

تُوفيَ مصطفى مراد الدباغ  في بيروت في السابع من أيلول/ سبتمبر من عام 1989، في بيروت، ومنح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون عام 1990. وكان الراحل  الدباغ قد بدأ في بحوثه الموسوعية في عام النكبة، حيث ركب البحر راحلاً من يافا، وأجبره القبطان على رمي حقيبته لتخفيف وزن المركب، ففعل لكنه عاد وبدأ بحثه من جديد لاحقاً.

فلسطين هاجسه الأول


كتب الباحث والكاتب الراحل مصطفى مراد الدباغ مئات المقالات ونشر أبحاثًا كثيرة تناول في أغلبها قضايا فلسطين والشعب الفلسطيني، كما كتب في المجال التربوي والتاريخي، ومن أهم مؤلفاته: بلادنا فلسطين، حيثُ فقد بحثه الأول في غضون النكبة وهو راحلًا من يافا عبر البحر، وذلك عندما أجبرهُ قبطان القارب بالتخلي عن حقيبته لتخفيف وزن القارب؛ مدرسة القرية (1935)؛ والتاريخ القديم للوطن العربي (1951)؛ الموجز في تاريخ فلسطين منذ أقدم الأزمنة حتى اليوم (1956)؛ الموجز في تاريخ فلسطين (1960)؛ قطر ماضيها وحاضرها (1961)؛ الجزيرة العربية (1962)؛ جزيرة العرب: موطن العرب ومهد الإسلام (1963)؛ القبائل العربية وسلائلها في بلادنا فلسطين (1979)؛ الموجز في تاريخ الدول العربية وعهودها في بلادنا فلسطين (1980)؛ الموجز في تاريخ الدول الإسلامية وعهودها في بلادنا فلسطين (1981)؛ من هنا وهناك (1986)؛ في عام 1986 كتبَ مُصطفى آخر كتابٍ ألفهُ واسمه “من هنا وهناك”، وكتبَ فيه:”فإن كان في العمر بقية وفي الوسع والطاقة فضلة صحة فسأواصل البحث في أمجادنا الفلسطينية حتى يقضي الأجل وينقطع العمل”.

بعد وفاته بنحو ثلاثة عقود، أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في التاسع من تشرين الثاني / نوفمير 2018 طبعة جديدة من موسوعة “بلادنا فلسطين” لـ المؤرخ والكاتب الفلسطيني الراحال مصطفى مراد الدباغ بتقديم من المؤرخ وليد الخالدي، أطلقتها “دار رفعت النمر للفن والثقافة” في بيروت. 

وتتكون الموسوعة من 11 مجلداً، اعتمد فيها الدباغ على مراجع تاريخية وجغرافية عربية وأجنبية، قديمة وحديثة، إلى جانب الدوريات والمجلات والصحف العربية، حيث يبدأ الجزء الأول منها بمجلد عنوانه “جغرافية فلسطين وتاريخها: نظرة عامة”. وفي كل جزء من مجلدات الموسوعة يتوقف الدباغ عند مدينة فلسطينية، فيذكر تاريخها القديم والحديث، ومساحتها، ويتحدث عن سكانها، ويتوقف عند خرائطها القديمة والحديثة، ويتطرق إلى مدارسها. 

فعلى سبيل المثال يفرد الجزء الثاني من القسم الأول للحديث عن غزة وبئر السبع، فنجده يعود إلى تاريخها في العصور القديمة وأشهر الطرق التي كانت تمر من هذه المنطقة، ويتناول فترة الحروب الصليبية، والحقبة العثمانية، والتاريخ الديني، فقد اتخذ منها الشافعي مستقراً له في فترة ما. ومن المجلدات؛ مجلد عن “الديار النابلسية”، و”في الديار اليافية” وفي هذا الجزء أيضاً يتناول الرملة واللد، وهناك جزء خاص بالقدس ورام الله وبيت لحم، وجزء بعنوان “في ديار الخليل” .

أهمية بحوث الراحل مصطفى مراد الدباغ

من يتابع ويقرأ بحوث الراحل الدباغ يتلمس بوضوح العدد الكبير من القرى والبلدات الصغيرة في فلسطين، بتفاصيلها الحياتية المختلفة؛ المدارس والطرق والخرائط القديمة، وكيف جرى احتلالها؛ لقد خاض الدباغ وبحث في أغوار كل مدينة وقرية وخربة فلسطينية، ورسم لها خريطة سياسية وثقافية واجتماعية وديموغرافية وعمرانية على مدى عصور.

وتبعاً لذلك فإن ثمة أهمية وضرورة فائقة لاقتناء أعمال الباحث الراحل مصطفى مراد الدباغ سواء من الباحثين المتخصصين في القضية الفلسطينية أو من مراكز البحث؛ فهي بمثابة كنز بحثي يمكن البناء عليه لجهة دحض الرواية الصهيونية حول فلسطين وشعبها المتجذر في وطن الآباء والأجداد.

*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا 

نبيل السهلي