الأقليات في صراع لإثبات الذات أمام عبث البعض بأردنيتها.
صابرة دوح
كاتبة تونسية
شكّل الأردن ملتقى للعديد من الأصول والمجموعات العرقية والدينية التي استوطن بعضها المنطقة قبل المئات من السنين فرارا من انتهاكات وفظائع ارتكبت بحقها، وكان لهذه المجموعات دور أساسي في بناء المملكة وتطويرها لكنها في كل مرة تجد نفسها مضطرة للدفاع عن أردنيتها.
مع اقتراب الاحتفال بمئوية تأسيس الدولة الأردنية الحديثة يبرز تساؤل حول ما تحقق خلال قرن من الزمن، وهل نجحت المملكة في بناء دولة مؤسسات حقيقية تكرس مفهوم المواطنة، بما يعنيه ذلك أن يكون الجميع سواسية فلا فرق بين أردني من أصل عربي أو شركسي أو شامي أو أرمني، أم أن هذا المسار ما يزال متعثرا في ظل عقلية عشائرية وهوياتية ما فتئت تشكك في هذا المنجز؟
لطالما قدم الأردنيون أنفسهم كنموذج لمجتمع متجانس في تنوعه، متكامل في تعدده، متفاخرين أن دولتهم “الصغيرة جغرافيا” وضعيفة الموارد نجحت في أن تفرض نفسها حالة فريدة في منطقة تنهشها النزاعات وعمليات الفرز الطائفي والعرقي والهوياتي، لكن هذا النموذج أو هذه الصورة لا تبدو ثابتة فهي معرضة في كل مرة للخدش بتصرف من هنا وسلوك من هناك، بوعي أو من دونه، ليعيد زرع بذور الشك في نفوس الأردنيين أنفسهم.
مثلت إمارة شرق الأردن اللبنة الأولى للمملكة الحديثة، التي أرساها الملك عبدالله الأول سليل العائلة الهاشمية، القادم من الحجاز، والذي كان يسكنه حلم بناء وطن جديد في منطقة ما تزال ترزح تحت الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، ولم تلتئم جراحها من عهد عثماني جثم عليها لقرون، يتشاركه في هذا الطموح العديد ومن أصول مختلفة اجتمعت حول هذا البناء.
مرحلة البناء
كان أول رئيس ديوان للأمير، السوري فخري بك البارودي القادم من دمشق. وأول رئيس للوزراء لهذه الإمارة الفتية، اللبناني الدرزي رشيد طليع، قبل أن يخلفه السوري من محافظة حمص، مظهر رسلان، الذي فضّل لاحقا العودة إلى دمشق ليكون وزيرا في الحكومة السورية، ويسلم المشعل لابن بلده الدمشقي علي رضا الركابي، ثم ابن خان شيخون من محافظة حلب (شمال سوريا) حسن خالد أبوالهدى.
تعاقب الأردنيين من أصول سورية على منصب رئاسة الوزراء في إمارة شرق الأردن الفتية يعكس حقيقة ثابتة وهي أن الشوام كانوا أول من ساهم في وضع اللبنات الأولى للمملكة الحالية، ليسوا هم وحدهم بل أيضا الأردنيون من أصول شركسية الذين كانوا يحظون بثقة كبيرة لدى العائلة الهاشمية.
ينتمي الشركس إلى منطقة القوقاز لكن في أواخر القرن الثامن عشر اضطروا إلى الهجرة إلى المناطق التي تسيطر عليها الدولة العثمانية وخصوصا بلاد الشام على خلفية الغزو الروسي القيصري، خلال الحرب الروسية العثمانية، وقد استقر العديد منهم في الأردن لاسيما في شرقها وشمال غربها.
يعد الشركس من المقربين للعائلة الهاشمية وقد أسندت لهم عدة أدوار لاسيما العسكرية منها حيث شكلوا عماد الحرس الملكي، كما كانت لهم إسهامات على مستوى الحكومات مع تشكل الأردن في ثوبه الحالي، حيث تولى الشركسي سعيد المفتي رئاسة الحكومة لثلاث فترات متتالية خلال الخمسينات من القرن الماضي، كما تولى أردنيون من أصول شركسية العديد من الحقائب الوزارية على مدار العقود الأخيرة.
وسطع نجم الأردنيين من أصول شركسية في عدة مجالات خلال العقود الأخيرة وكانت لهم إسهامات كبيرة في الأدب والفن، والإدارة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الروائي والمخرج السينمائي العالمي محيي الدين قندور، ونانسي باكير التي سبق وتولّت وزارة الثقافة ومنصب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، والروائي محمد عمر أزوقة.
أثر راسخ
كانت أيضا لمجموعات عرقية أخرى مثل الأكراد والبهائيين والدروز والشيشان إسهاماتها الكبرى في بناء الأردن الحالي، وفي هذا الإطار لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبه الأردني من أصل كردي سعد جمعة الذي تولّى رئاسة الحكومة في عام 1967، هذا التاريخ الذي شكل محطة مفصلية في النزاع العربي الإسرائيلي.
الدروز الذين قدموا من جبل العرب في سوريا، محتمين بهذه الرقعة الجغرافية خلال الثورة السورية التي قادها سلطان باش الأطرش ضد الاحتلال الفرنسي كانوا هم أيضا شمعة مضيئة في تاريخ الأردن الحديث، حيث لعبوا دورا بارزا في الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية، لكن هذا الحضور تراجع لاسيما على المستوى السياسي ودوائر صنع القرار في العقود الأخيرة لأسباب مختلفة، وتبرز من حين لآخر دعوات بضرورة منحهم كوتا في مجلس النواب أسوة بباقي الأقليات الكبيرة للحفاظ على كينونتهم كطرف فاعل في المشهد.
من خلال البحث في الأصول المختلفة للأردنيين وإسهاماتهم، لا يمكن تجاهل الشيشان الذين قدموا من القوقاز في أواخر القرن التاسع عشر، ونجحوا في الاندماج سريعا مع أبناء المنطقة، ويسند إليهم الفضل في بناء وتشكل مدن أردنية على غرار مدينة الزرقاء شرق المملكة.
وبرع الأردنيون من أصل شيشاني في العديد من المجالات لاسيما في التنظيم والإدارة، ولعل من أبرز الشخصيات بهاء الدين الشيشاني، الذي كان أول رئيس لبلدية الزرقاء في العام 1928، ومحمد بشير إسماعيل الشيشاني الذي شغل منصب وزير الزراعة وأمينًا للعاصمة، وسميح بينو الذي كان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد.
مواطنة منقوصة
لقد كان الأردن بمثابة البوتقة الذي اجتمعت فيه أصول مختلفة وساهمت في بنائه وتطويره، لكن ذلك لا يعني أنه حصل انصهار كلي بين هذه المكونات، ويعود ذلك إلى أسباب سياسية وجغرافية واجتماعية.
البعض يحمل المسؤولية للأقليات التي رغم أنها كانت أساسا في بناء المملكة وساهمت في تطويرها وتحديثها، بيد أنها على الصعيد الاجتماعي كانت منغلقة على ذاتها، في محاولة للحفاظ على خصوصياتها، وأيضا لأنها في جانب آخر مسكونة بهاجس الخوف من الآخر، خصوصا أن معظمها قدم للمنطقة فرارا من فظائع ارتكبت بحقها.
في المقابل يعتقد آخرون أن النظام الرسمي نفسه في المملكة ساهم بشكل ما في عدم تحقق هذا الانصهار الكامل، وتظهر عوارض التفرقة في الكثير من المناحي وحتى في
القوانين الأردنية. فالكوتا في النظام الانتخابي التي يقول كثيرون إنها شكل من أشكال “التمييز الإيجابي” هي تعكس في واقع الأمر اعترافا وإقرارا بوجود “مواطنة منقوصة”.
ويشير هؤلاء إلى أن القانون الانتخابي الحالي، والذي تعالت في الفترة الأخيرة أصوات تطالب بتغييره، صيغ بشكل يبقي على هيمنة العشائر العربية في شرق الأردن على السلطة التشريعية.
لاجئون أم أبناء البلد
أثارت مؤخرا تصريحات لنائب اعتبر فيها الشركس والشوام “لاجئين” ضجة كبيرة في المملكة بين مستنكر ومندد وغاضب على نسف إرث نضالي لهذه الأصول واعتبار أبنائها بمثابة مواطنين من الدرجة الثانية.
وكان المحامي زيد العتوم الذي وصل إلى قبة المجلس عن محافظة جرش شمالي المملكة في انتخابات نوفمبر الماضي تحدث في مداخلة له خلال جلسة لمناقشة منح الثقة للحكومة عن التنوع الديموغرافي في جرش والأدوار الوطنية التي لعبتها محافظته على الصعيد الوطني وأولى محطاتها على هذا المستوى “استقبال اللاجئين من الشوام والشركس والفلسطينيين”.
لم يكن النائب العتوم المستجد حديثا على العمل النيابي يدرك أن إشارته إلى الشركس وباقي الأصول كلاجئين ستخلق كل هذه الضجة وردود الفعل، وأن يجد نفسه في مواجهة عاصفة من الهجمات والانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وانضم إلى هذه العاصفة العديد من الكتاب والإعلاميين والمدونين، على غرار الإعلامي والناشط خليل النظامي الذي نشر تدوينة لوالده عبر صفحته على “فيسبوك” تقول إن “الأردنيين من أصل شامي وشركسي هم أول من أسّسوا مدينة جرش شمالي البلاد”.
وقال الكاتب محمود كريشان في مقال له ردا على مداخلة العتوم “إن وصف النائب لشراكسة وشوام الأردن (من أصل سوري) بعبارة لاجئين وما رافق كلمته من مصطلحات تجانب حقيقة الواقع والبناء ومداميك خالدة وضعها بكل فخر وشجاعة الشوام والشركس في بناء مملكتنا الفتية التي ستحتفل بمئوية تأسيس الدولة الأردنية”.
وأمام هذه الضجة التي لم يستطع النائب احتواءها بتبريره لاحقا سبب ومغزى تطرقه إلى هذه المسألة وهو الحديث عن التنوع الذي تزخر به محافظة جرش التاريخية، اضطرت عشيرة العتوم إلى الخروج والرد عبر بيان قالت فيه “إن التأشير ولأي سبب على أصول مكونات أبناء جرش منزلق لا مبرر له حتى لو كان بذريعة إظهار التنوع أو إظهار الذات على حساب العبث في ورقة حسمها أهالي جرش منذ بدايات القرن الماضي”.
ولئن تبدو ردود الفعل الرافضة لتصريح النائب، تعكس في العلن رفضا لأي تقسيمات هوياتية لكنّ كثيرين يرون أن ما جاهر به زيد العتوم وإن كان عن غير قصد كشف الغطاء عن واقع متجسد وعن عملية فرز بين مكونات المجتمع الأردني، حيث أن سؤال أحدهم عن أصوله أو العشيرة التي ينتمي إليها هو أمر بديهي وطبيعي في المملكة، حتى بين المواطنين العاديين.
يقول أحد النشطاء على موقع التوصل الاجتماعي ردا على الجدل المثار إن هذا واقع ماثل لا يمكن إنكاره “فمن منا لم يستقل سيارة أجرة إلا وسأله السائق عن عشيرته ليعرف أصله وفصله، وكم تم توجيه نفس السؤال (التحققي) والبلدة الأصلية للكثيرين في مراكز وجهات وحدود”!
أقليات استوطنت الأردن
يحتضن الأردن الذي يبلغ تعداد سكانه 10 ملايين نسمة غالبية من أصول عربية منحدرين من قبائل في منطقة شبه الجزيرة والشام، إلى جانب أقلية من الشركس، والأكراد، والدروز، كما توجد في المملكة أيضا مجموعات صغيرة أخرى على غرار الأرمن والبهائيين والشيشان والبشناق.
الشركس
يبلغ عددهم نحو 200 ألف شركسي، تعود جذورهم إلى منطقة القوقاز التي هجروا منها في أواخر القرن الثامن عشر على خلفية الغزو الروسي القيصري، خلال الحرب الروسية العثمانية، وقد استقر العديد منهم في الأردن لاسيما في شرقها وشمال غربها.
ويعد الشركس من المقربين للعائلة الهاشمية وقد أسندت لهم عدة أدوار لاسيما العسكرية منها، حيث شكلوا عماد الحرس الملكي، كما كانت لهم إسهامات على مستوى الحكومات مع تشكل الأردن في ثوبه الحالي، حيث تولى الشركسي سعيد المفتي رئاسة الحكومة لثلاث فترات متتالية خلال الخمسينات من القرن الماضي، وتقلد الأردنيون من أصل شركسي العديد من الحقائب الوزارية على مدى العقود الأخيرة.
الأكراد
يبلغ عددهم نحو 100 ألف نسمة، يعيشون بشكل رئيسي في العاصمة عمّان، بالإضافة إلى إربد، السلط والزرقاء. انصهرت هذ المجموعة العرقية بشكل سريع في المجتمع الأردني، بحيث أنه لم يُخصص لهم أي مقاعد في البرلمان الأردني التي تُمنح للأقليات.
استوطنوا المنطقة منذ العام 1173 مع استقرار الأيوبيين. وقد فرّ عدد من الأكراد إلى الأردن بعد المذابح التي تعرضوا لها في تركيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. كما أن المزيد منهم وصلوا من فلسطين بعد حربي 1948 و1967.
يُعتبر رئيس الوزراء الأردني الأسبق سعد جمعة من أهم أعلام المكوّن الكردي في المجتمع الأردني الذين وصلوا إلى المناصب العُليا في الدولة، والذي شكّل حكومتين في ستينات القرن العشرين.
الدروز
يقدر عددهم بنحو 20 ألفا ويعود وجودهم في المملكة إلى بدايات التأسيس، حيث قدموا إلى الأردن عام 1918 من جبل العرب بسوريا، عقب الثورة السورية عام 1925 التي قادها سلطان باشا الأطرش ضد المستعمر الفرنسي.
كان لهم حضور سياسي منذ بداية التأسيس حيث شكل الدرزي رشيد طلعت أول حكومة حزبية في الأردن في عام 1921، لكن هذا الحضور تراجع في العقود الأخيرة، وبات ضئيلا وتبرز من حين إلى آخر دعوات من شخصيات درزية لضرورة شملهم بنظام الكوتا.
الشيشان
يبلغ عددهم نحو 10 آلاف. كانوا هاجروا إلى الأردن من غروزني في أواخر القرن التاسع عشر، ويقول المؤرخون إنهم من أسسوا محافظة الزرقاء شرق المملكة، وكانت لهم إسهامات كبيرة في مختلف المناحي السياسية والثقافية والاقتصادية، ومن أبرز الشخصيات الشيشانية بهاء الدين الشيشاني، أول رئيس لبلدية الزرقاء (1928م)، وسميح بينو الذي كان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد.
الأرمن
يقدر عددهم بنحو 3000 شخص، وكانوا استوطنوا المملكة خلال الحرب العالمية الأولى على إثر المذابح التي تعرضوا لها على يد الدولة العثمانية، ويعيش أغلبهم حاليا في العاصمة عمّان، وتحديدا في حي الأرمن بجبل الأشرفية، بالإضافة إلى محافظات رئيسية كإربد، والزرقاء، ومادبا.
البهائيون